nasdahab@gmail.com
طقوس الكتابة من العناوين التي تستهوي القرّاء بشدّة، إنْ بدافع الفضول مجرّداً أو الفضول الذي يحفز إلى المعرفة الباعثة على الإلهام. أكثر من القرّاء، فإن طقوس الكتابة أشدّ استهواءً للكُـتــّـاب أنفسهم من باب التلصّص على زملاء المهنة، إنْ بدافع الفضول البريء مجرّداً أو الفضول الذي يستتبع سرقة مهنية مشروعة لا تُعنى بالمنتج الإبداعي نفسه وإن تعلّقت بسرّ الخلطة مما يُـعدّ الاطّلاع عليه جريمة نكراء في صناعة الدجاج المقلي وغيره من ألوان الطعام والشراب التي تحتكرها أيّ من العلامات التجارية المسجلة.
الكتابة الراتبة في الصحف والمجلات لا تدع كاتباً يهنأ بطقوس كتابة من أي قبيل، فالطقس الوحيد الأكيد مع ذلك الصنف من الكتابة هو أجراس الإنذار بدنـوّ موعد القذف بالمقال إلى المطبعة، وتلك الأجراس كفيلة بتهيئة الأجواء حول الكاتب في زمن قياسي تماماً كما تفعل صافرات التنبيه في حالات الطوارئ، وهي حالة عامة مع كل كاتب ملتزم بالكتابة للصحف والمجلات في أية بقعة من العالم، غير أنها أكثر خصوصية عندنا في السودان، ففقه اللحظة الأخيرة معروف وذائع و يلقى قبولاً حسناً لدى الجميع، كما أن تعريف اللحظة الأخيرة عندنا يضيق ويكاد ينحصر في المدلول الحرفي للمصطلح تماماً، وما يعجز عن أن يستوعبه فقه اللحظة الأخيرة لدينا من أعذار يستوعبه بارتياح فقه آخر ليس أقلّ تفشياً ولا أنقص قبولاً هو فقه الاحتجاب.
لعل أطرف طقوس الكتابة التي يشترك فيها معظم الكُــتــّـاب هو الخوف من الورقة البيضاء، وإن تباين الكتــّـاب في مقدار ذلك الخوف، وباقتحام التكنولوجيا الحديثة لطقوس الكتابة فإن ذلك الطقس يــُـعاد تعريفه على أنه الخوف من الشاشة البيضاء. ولكن الأخطر في مقامات الخوف لدى الكُتــّــاب هو الخوف من الفكرة البيضاء، وهي حالة أكثر مداهمة للكـُـتــّاب الموظفين الملتزمين بمواعيد يومية أو أسبوعية أو حتى شهرية مع الصحف والمجلّات، غير أن الكُــتــّـاب غير الموظفين من الروائيين والشعراء – على سبيل المثال – ليسوا خـلِـيّـيـن تماماً من رهبة الفكرة البيضاء، فالأخيرة تستحيل عندهم إلى حالة قد تكون مزمنة من المعاناة مع الإلهام الشارد حتى إذا لم يكونوا على مواعيد مضروبة مع المطابع أو التزامات تعاقدية مع دور نشر، فالانقطاع عن الكتابة لأمد طويل كفيل في ذاته بإثارة القلق لدى أكثر الكُــتـــّـاب ثقة في موهبته.
التكنولوجيا الحديثة بدّدت كثيراً من أوهام الكُــتــّـاب مع طقوس الكتابة، فارتباط كاتب بقلم معين أو نوع خاص من الأوراق لم يعد حجة مقنعة للعدول عن الكتابة كما كان ممكناً من قبل عندما لا تعود تلك الوسائل متاحة بحذافيرها للكاتب لسبب أو آخر، فليس معقولاً أن يدّعي كاتب ارتباطه بنوع خاص من لوحات المفاتيح أو شاشات “إل سي دي”.
من أيادي التكنولوجيا الحديثة على الكُـتــّــاب أصحاب الخطوط الرديئة أنها رفعت عنهم حرجَ تبييض مسوّداتهم غير الواضحة، ومن أيادي التكنولوجيا الحديثة على الكُـتــّــاب (على اختلاف حظوظهم من الخط الجميل) أنها أزاحت عن كواهل مكتباتهم الاحتفاظ بمئات المراجع – وألوفها لدى البعض – تماماً كما أزاحت عن مكاتبهم أكوام الكتب المبعثرة وهم بسبيل الإعداد لكتاب أو قصيدة أو مقال، ومعلوم أن البدائل التقنية الحديثة هي مما يستوعبه قرص مدمج واحد يضم مئات المراجع، وأحياناً لا حاجة إلى القرص المدمج ذاته حين يكون الاتصال متاحاً بالشبكة (الإنترنت) التي أضحت أوفر شهرة من نار على علم وأسرع انتشاراً من النار في الهشيم.
طقوس الكتابة – خفيفة الظل والجادّة على السواء – لا حصر لها، ومن أظهر فوائد الإتيان على ذكرها كما أسلفنا أنها تشبع فضول قارئ شغوف إضافة إلى طمأنة كاتب حساس بالوقوف على غرائب ما يفعله زملاؤه فلا يعود القلق ينتابه من أية هيئة يتخذها أثناء الكتابة مهما بدت غريبة و محرجة.
الأهم من طقوس الكتابة في باب “هكذا أكتب” هو الأسلوب الذي تتداعى به الأفكار، فطقوس الكتابة مما يعمد إليه الكُــتــّـاب – أو يتخذونه عفواً – من أجل تهيئة المناخ للأفكار والأساليب كي تتداعى في سلاسة. آلية الإلهام، أو ميكانيكية تدفق الأفكار إذا جاز التعبير، حقل دراسات خصيب ومشوّق، وهو يصبح أكثر تشويقاً وخصوبة عندما يكون علم النفس معـنـيّـاً بالدراسة فيغدو “سيكولوجية الإلهام” هو التعبير الأكثر جاذبية. الفلسفة حقل آخر مهم في هذا الباب وإن يكن أقل جاذبية من حيث التشويق (وليس كشف الحقائق بالضرورة). ومشكلة الفلسفة أنها تبدو كما لو كانت تفترض النظرية ثم تشرع في البرهنة على صحتها، ما يجعل أية نظرية ممكنة من وجهة نظر فلسفية ما دام من سيضطلع بمهمة البرهنة على صحتها فيلسوف حاذق.
من غرائب آراء الفلاسفة في آلية الإلهام أن العمل الإبداعي يكون قد اكتمل في ذهن مبدعه – بطريقة لا تعنينا تفاصيلها هنا – قبل أن يشرع الأخير في تدوينه، ولا تكون عملية التدوين حينها سوى تبييض للمسوّدة التي في ذهن المبدع أو ربما خياله في اللحظات التي تتلو الإلهام مباشرة. وإذا كان من المبدعين من يكتب بسهولة وتدفــّــق ومنهم من يستعصي عليه الأمر حتى يكون خلعُ ضرسٍ أهوَنَ عليه من الكتابة، فإن ذلك التباين – بناء على النظرية السابقة – لا يعدو أن يكون سوى انعكاس لآلية الإلهام نفسها لدى المبدع بحيث يكون المبدع الذي ينهمر على خياله الإلهامُ انهماراً لحظاتِ تشكُّل العمل قبل التدوين مرشــّـحاً للتدوين بسلاسة، أما الآخر الذي تؤلمه الكتابة كما يؤلم الضرسُ وهو يُـخلع فليس سوى مبدع مسكين يعاني ذات الألم مرتين: مرة عند تـلــَـقــِّي خياله الإلهامَ ومرة لدى استدعاء ما تـمّ إلهامه مسبقاً إلى الأوراق.
وربما بدت تلك النظرية مثيرة وقابلة للتصديق لولا إصرارها على أن تفاصيل العمل المبدَع جميعها يكون قد تمّ الفراغ منها في خيال المبدِع قبل التدوين، والاعتراض – المغري – على ذلك أن انحرافات كثيرة في القطعة المبدَعة تحدث أثناء التدوين وبعده، وربما ردّ أنصار النظرية بأن تلك الانحرافات لا تعدو أن تكون سوى تغيير يطال العمل الذي اكتمل انجازه بالفعل قبل التدوين بغض النظر عمّا إذا كان التغيير لصالح العمل فـيُــعدّ تجميلاً أو ضدّه فـيــُــحسب تشويهاً.
مهما يكن، فإنه ليس من الصعب الالتفاف على آلية الإلهام من أجل الوقوف على أسرارها مهما تبلغ النظرية التي تعرض لتلك الآلية من التعقيد والجموح، فمع النظرية سابقة الذكر يمكن الوقوف على أسرار الإلهام بمداهمة الإبداع بالتدوين وذلك بالتهيّـؤ للكتابة قبل تحديد موضوع العمل المزمع، وهكذا تتسنى متابعة الإلهام وهو يتدفق حيّاً على الهواء من السماء إلى الأوراق أو شاشات الكمبيوتر مباشرة دون وسيط.