عمرو منير دهب يكتب: ما الذي ورطني في هذا المقال؟

nasdahab@gmail.com

يشرع الكاتب في المقال ثم يكتشف فجأة، أو شيئاً فشيئاً، أنه في مأزق. لعله اختار العنوان الخطأ أو المدخل غير الدقيق للحديث، ذلك احتمال وارد.

إذا كانت أهمية المقدمات معروفة بما ييسِّـر ما يأتي بعدها على الكاتب والقارئ على حدّ سواء فإن سطوة العنوان – على الاثنين مجدداً – ربما تحتاج إلى إضاءة يسيرة، فالعنوان هو ما يشد الكاتب و يُـديـره في فلكه استجابة لنصيحة قديمة من مدرِّسي الإنشاء تحذر من الخروج عن الموضوع، والعنوان هو ما يعدو القارئ حثيثاً فوق السطور وما بينها بحثاً عن خلاصته أو الإجابة عليه في حال أن يكون سؤالاً كالذي يتصدّر هذا الحديث.

فكاك الكاتب من قبضة مقال لأنه اختار المدخل غير الدقيق أو العنوان الخطأ ليس أمراً يسيراً كما قد يبدو للقارئ خاصة إذا اكتشف الكاتب ذلك وهو في منتصف المقال، لكن الأكثر إثارة أن مهمة الفكاك تلك ليست أيسر حالاً بالضرورة إذا اكتشف الكاتب خطأه ذاك وهو في بدايات الطريق، فالمواجهة أمام الكاتب هي على كل حال بين فضيلتَي الاعتراف بالخطأ والعدول عنه من جهة وامتحان المقدرة على تناول المواضيع من أي المداخل وتحت أي العناوين من الجهة الأخرى، والغالب أن ترجح كفة الفضيلة الثانية في المواجهة، لذا تكثر نصائح النقاد لـلـكُـتــّـاب بالتحلِّي بشجاعة الحذف كونها لا تقلّ فضلاً وأثراً عن بسالة التحدّي بمناوشة المعقــّــد من المواضيع والأساليب إن لم تفضلها في كثير من الأحيان.

الكاتب الذي يكتب كما يتكلّم يريح نفسه ويريح قارئه، غير أنه يحرم الاثنين من لذة الصنعة التي تولِّد من المعاني والأساليب ما يستلزم أقداراً متباينة من مشقة الاستكشاف الذي لا يخلو من النشوة. لكن حتى الكاتب الذي يكتب في سلاسة من يتكلّم لا يسلم من أن يجد نفسه وهو يكتب محاطاً بالسؤال: ما الذي أوقعني في هذا المأزق؟ تماماً كما يسائل نفسـَـه سراً متحدِّثٌ لبـِــق طلق اللسان عن الطريقة التي يخرج به من ورطة الدفاع عن وجهة نظر تبيّن له خطؤها – أو خطأ بعض أوجهها – في غضون مجادلة مع آخرين. سلاسة الكتابة، تماماً كسلاسة الحديث، ليست صمام الأمان لتلافي مآزق الأفكار في كل الأحوال. وإذ يبدو أن كل موضوع يحمل مأزقه في تضاعيفه فليس أمام الكاتب سوى خيارين للخروج من أمثال تلك المآزق: أن يتحلّى بشجاعة الحذف والشروع في بداية طازجة أو يتحلّى بمهارة جرّ الحديث إلى منعطف جديد لا يجبّ ما قبله، وكلا الخيارين كما هو واضح يستلزم من الكاتب المرونة بشكل أو آخر من أشكال التعامل مع الصنعة مهما بدت الأخيرة تلقائية لدى من يكتب كما يتكلّم ولدى من يحبّذ ذلك النهج للكتابة من القرّاء.

التريّث قبل البداية، أو عقب الفراغ من فكرة انتقالاً إلى أخرى، لن يضمن للكاتب الإفلات من مآزق الكتابة، بل هو أدنى إلى أن يوقعه في مأزق آخر أكثر شهرة موسوم برهبة الورقة البيضاء إذا كان تريُّث الكاتب عند بداية الحديث، ثم – قياساً على ذلك – ما يمكن أن نسِمــَـه بـ “رهبة الجملة الواحدة” أو “رهبة الفقرة الواحدة” بحسب سرعة تدفق الإلهام لدى الكاتب لاحقاً. ويمكن أن نطلق على هذا النوع الخاص من المآزق “رُهاب الكتابة” الذي هو في الواقع، وباستعارة مصطلحات علم النفس مجدداً، نوع من الماسوشية يتلذذ فيه الكاتب بصنوف العذاب تــُـنـزله عليه الكتابة حتى الكلمة الأخيرة من الحديث المكتوب.

قليلة هي الكتابات التي ينجزها الكاتب تماماً كما وضع خريطتها قبل الشروع في الكتابة، وعند المقابلة مع علم كالهندسة – مثلاً – فإن من المعلوم منها بالضرورة أن المهندس الذي يبني بناءً يعرف أدق تفاصيله قبل أن يكتمل، بل فور الفراغ من تصميمه.

الحديث المكتوب كثيراً ما يتدخل فيكتب نفسه بينما الكاتب منهمك ظناً منه أنه يـُـحكم السيطرة على مجريات الكتابة. ولعل تدخــُّـلات الحديث المكتوب تلك هي الإلهام في أجلى صوَره حين يجري القلم حثيثاً على الورقة أو تتقافز الأصابع في رشاقة على لوحة المفاتيح دون سيطرة من الكاتب على الأمر.

يخرج الكاتب من مآزق كتابة مقال إنْ بتدبيره أو بنفحات الإلهام الجزيلة على غير ما يتوقع تماماً، لكن ذلك لا يمنعه من أن يعود في مقال قريب فيتساءل عند نقطة أو أكثر منه: ما الذي ورّطني في هذا المقال؟ الأدهى أنه يتلذذ بعذاب الكتابة وهو لا يكف عن السؤال الأكبر: ما الذي ورّطني في الكتابة؟

Exit mobile version