عمرو منير دهب يكتب:  قارئي المفضــَّـل 

nasdahab@gmail.com

مقابل “كاتبي المفضـــَّـل” من حق الكاتب أن يطلق عبارة كهذه التي تتربّع على العنوان، ولا يعني ذلك أن كاتباً كائناً من كان يمتلك الجرأة على إقصاء قارئ من دائرة حظوته مهما يَبْدُ القارئ مشاكساً ومتمرِّداً.

ولكن قبل أن يصدر أيّ كاتب أحكامه على القرّاء في ضوء إقبالهم نحوه بالقراءة والتعليق عليه أن يتذكر أنه قارئ أولاً، بل المفترض أنه قارئ أكثر من كونه كاتباً بحسب قوانين الشحن والتفريغ المتعلقة بالإبداع عامة والكتابة على نحو مخصوص.

كنت قد ذكرت من قبل أنني “أكاد أستجيب لهاتف يطرقني مع كل عمل أنجزه ملحّاً علىّ أن أرفق مع ذلك العمل كتالوجاً يرشد القارئ إلى الطريقة المثلى لقراءة العمل والانتفاع به ويحذّر في الوقت ذاته من الطرق السيئة لاستعمال القطعة الأدبية”.

حظ الكاتب السعيد أن يتلقاه القرّاء كما يتهيّأ هو قبل أن يتقدّم إليهم بعمله كل مرة، أما أفضل حظوظه فهو أن يتجاوز احتفاؤهم به توقعاته باستنباط ما لم يقصده من روح العمل، ومن الطبيعي أن لا يحدث ذلك الحظ النادر كل مرة، إذ يكفي الكاتب المحظي أن ينعم بتلك الهبة من القرّاء بين الحين والآخر.

سوء الفهم بين الكاتب وقرّائه مسؤولية الكاتب في المقام الأول، وربما في المقام الأخير أيضاً، فالعمل المكتوب هو في النهاية سلعة مهما يَبْدُ هذا الوصف مستفزاً ومنفــِّـراً للبعض. ليس من المنطق أن يلوم صاحب مصنع جمهورَ المستهلكين لأنهم لم يُحسنوا تذوُّق مشروب جديد طرحه المصنع في الأسواق فأعرضوا عنه. السلوك العملي لرجل الأعمال الناجح في حالة كتلك يملي عليه أن يعيد تصنيع المشروب بوصفة جديدة تروق القطاع الأعظم من الناس أو يكتفي بنخبة معينة من المستهلكين يحسب أرباحه رجوعاً إلى حجمها ونزعتها في الاستهلاك.

كذلك لن يغني الكاتب فتيلاً أن ينحي باللائمة على القرّاء لأنهم لا يفهمونه، فلن يدفع ذلك قارئاً إلى أن يشعر بتأنيب الضمير فينكبّ على أعمال الكاتب ينقــِّـب فيها عمّا عسى أن يفهمه فيرفع عن نفسه الحرج، فمثل رجل الأعمال الناجح على الكاتب الذي يطمح إلى قدر معتبر من النجاح أن يفاضل بين خيارين: الاكتفاء بطائفة معيّنة من القرّاء وحساب الأرباح (المعنوية لا ريب) تأسيساً على حجم تلك الطائفة ونزعتها في المطالعة، أو تعديل المنتج بما يسمح لسائر المتلقــِّـين بالإقبال عليه عن طيب خاطر والتفضــُّـل برفع عائد الأرباح (المعنوية مجدداً) على الكاتب.

من حق القارئ أن يكون انتقائياً، وإن لم يكن من حقــِّـه أن يقلِّل من قيمة عمل كتابي لمجرّد أن العمل لا يروقه. كذلك من حق الكاتب أن يميل إلى من يُعجَب به من طوائف القرّاء دون أن يرمي من لا يلتفتون إليه بسوء الفهم على طريقة “عليّ نحْتُ القوافي من مقاطِعها *** وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ”.

بيد أن ولوج القارئ إلى العمل الإبداعي – خصوصاً الكتابي – مدجَّجاً بالآراء المسبَّقة مسألة لا تخلو من تضييع فرص نادرة للفائدة والمتعة على القارئ. والقارئ الذي يميل إلى إطلاق أحكام عامة على كاتب بعينه مستقاة من تجربة سابقة يحرم نفسه من متعة تذوّق ما قد يروقه من أعمال أخرى لذلك الكاتب إذا سمح بإعطاء نفسه فرصة جديدة لمطالعة الكاتب في مقام آخر. لكن الأدهى أن القارئ قد يكتشف جديداً يروقه في عمل استنكره مرّة إذا أفلح في التحرُّر من سيطرة منهج بعينه في القراءة والنقد، وربما في الميل العاطفي تجاه البشر والأفكار من قبل.

كل كاتب يكتب لقارئ بعينه، والتقسيم الأبسط في هذا المقام هو: عامة الناس ونخبتهم، ولكلٍّ من الفريقين إغراءاته في جذب الكُتــَّـاب والتفضــُّـل عليهم بالإعجاب، فالصفوة تبدو كما لو كانت الغاية التي يحب الكاتب أن ينتهي إليها مشروعه، ولكن كاتباً مهما يبلغ من التعالي لا يمكن أن يدَّعي أنه لا يجد حرجاً في أن يفوته جمهور العامة من الناس، فنشوة التأثير والإعجاب كالحساب في البنوك، أفضل عندما يكون أكثر، ومن ثم تبزغ سطوة الشهرة كونها تغدق على المشاهير مساحة أعظم من الحظوة لدى الجمهور وقدراً أكبر من المال في الجيوب إذا كانوا من سعداء الحظ النادرين في عالم الكتابة عندما يتعلّق الأمر بالعائد الماديّ.

لست مع القائلين بإمكانية الجمع بين الحُسنـيـَـيـْن من الجماهير، إذ لا بد من غلبة فئة على أخرى لدى أي كاتب، ولا يزال المثل السوداني يقول: “ركّاب سرجين وقــّاع”، وعليه لا مناص من المفاضلة بين الانحياز للعامة أو الانشغال بالصفوة، ولكلٍّ من الوجهتين شرعيتها في القصد وجاذبيتها في الانصراف.

الموازنة بين الجمهور من العامة والصفوة محاولة يائسة للجمع بين نقيضين من ضروب الكتابة، وبمعنى أدق هي محاولة مستحيلة للإمساك بالكتابة من طرفيها المتقابلين، بل من طرفيها المتنافرين بالمعنى الأكثر دقة. لذلك فإن على الكاتب أن يتنازل بشجاعة ورضى عن مساحة إحدى الفئتين من المتلقين لصالح الأخرى.

قارئي المفضــَّـل هو ذلك الذي يقبلني على علّاتي إكراماً لاهتمامي بالبضاعة التي أزجيها إليه من الأفكار والكلمات حتى إذا كان ما يروقه هو نقيضها من بضائع الكلام.

Exit mobile version