عمرو منير دهب يكتب: خيرٌ لا بدّ منه

nasdahab@gmail.com

لا بدّ من الكتابة مثلما لا بدّ من الحياة، والأخيرة ظلّت موضع همز ولمز على مدى تاريخ البشر المكتوب، وقياساً على ما قرأناه من ذلك التاريخ فإن الدنيا لا ريب حظيت بالموضع ذاته مع تاريخ البشر قبل الكتابة مما لم تصلنا تفاصيله للأسف.

للمتنبي شعر من أصدق ما قيل في الدنيا التي لا مفرّ من عيشها، بل لا مفرّ من حبِّها:

وَهيَ مَعشُوقةٌ على الغَدْرِ لا تَحْـ *** ـفَظُ عَهْداً وَلا تُتَمّمُ وَصْلا

ولكن الشاعر العظيم يواصل في وصف الدنيا بما لا نجرؤ على إقراره بغض البصيرة عن القدر الذي يتضمّنه من الحكمة:

شِيَمُ الغَانِيَاتِ فِيها فَمَا أدْ *** ري لذا أنّثَ اسْمَها النّاسُ أم لا

وأصدق ما نطمح إلى أن نصف به الكتابة أنها كالدنيا إنْ خيراً أو شرّاً، ولكننا نحب أن نرجّح الأول على الأخير في الاختيار لا لشيء سوى الاستجابة لنصائح علماء النفس بضرورة التركيز على النصف الممتلئ من الكوب والجانب المشرق من الصورة، فلذلك فوائد جمّة كما يمنــِّـينا أولئك العلماء بصرف النظر عن جدل الجدوى من تجاوز نصف الحقيقة أو بعضها على الأقل.

يمكن أن نذهب في اطمئنان إذن إلى تأكيد تعذُّر المهرب من الكتابة تماماً كتعذُّر المهرب من الحياة، فنحن غالباً نصرّ على أن نعيش حياتنا (ولنتجاوز جدلاً عن موقفنا منها حبّاً أو كرهاً) دون أن تكون لنا يدّ في قرار وجودنا، بل دون أن نكون متأكدين من أن الاستمرار في الحياة هو القرار الأفضل ونحن نملك الخيار بمعنى من المعاني.

مع سيرة استمرارنا في الحياة نبدو مدفوعين بالغريزة لا ريب، ولكن أية غريزة؟ الأغلب أنها غريزة فضول استكشاف الحياة ذاتياً بعيداً عمّا ظل يلقنه الكبار والسابقون، وربما بدت تلك الغريزة موضع تناقض، فهي من باب آخر أدعى إلى أن تدفع بني آدم إلى استكشاف ما وراء الحياة مما لم يفصح عنه أحد من واقع خبرة. وفي هذا تتغلب على غريزة الفضول – في تبرير التشبُّث بالحياة – غريزةُ الخوف من المجهول لا غريزة حبُّ الحياة التي تبدو مهرباً سهلاً في مقام التفسير يحتاج بدوره إلى تفسير.

ولأن الكتابة كالحياة، فإن إصرار الكُتاب على التشبُّث بالكتابة هو من أحد أوجهه (آمل أن يكون الوجه المشرق للصورة) خوف من المجهول القابع وراء قرار جريء بالكف عن الكتابة لأنها غير ذات جدوى، وربما يتصوّر الكاتب أن لعنة ستصيبه إذا همّ باتخاذ قرار من ذلك القبيل.

لكن السؤال الذي يبدو منطقياً في تبرير الكفّ عن التفكير في الكفّ عن الكتابة هو: ماذا سيفعل الكاتب بعد ذلك؟ والإجابة لدى من دلّهته الكتابة أقرب إلى أن تنحصر في ما يشبه مواجهة الموت عند من دلّهته الحياة حتى إذا لم يصل إلى إجابة شافية على أسباب ذلك الدّلَه.

ولأن الكتابة كالحياة، فإن القول بأن ما يدفع الكُتاب إلى التشبث بصنعتهم هو غريزة حب الكتابة ليس سوى تفسير بحاجة إلى تفسير كما ذهبنا قبل قليل، فالقول بأن ما يدفعني إلى حبك هو غريزة حبك أشبه بالتفسير الشهير للماء بالكلمة ذاتها.

وبسبب أن الكتابة كأية مهنة أخرى من حيث ولع أصحاب أية حرفة بها، فإن الإصرار على التشبُّث بالكتابة يشبه إصرار كل مدمن صنعة على التشبُث بها حتى إذا كانت الحياة لا تتوقف بعد تلك الصنعة.

مهما تَبْدُ تشبيهاتنا السابقة للكتابة بالحياة نفسها قريبة ومقنعة، فإن الفارق الجوهري بين الحياة والكتابة، وبين أية مهنة والحياة، أن الأخيرة هي الأحجية الكبرى التي تسقط كل الأحاجي دونها، بحيث يصبح قصارى الأمل لدى كل أحجية غليظة أن تستمد شرعية وجودها من أحجية الحياة الأم.

لكن جدليّتنا أساساً مع الكتابة في مواجهة كل صنعة أخرى قبل أن تكون مع الكتابة في مواجهة الحياة نفسها، وعليه وجب التأكيد على أن إصرار أي كاتب أصيل على أن لا يفارق الكتابة ليس سوى إصرار كل صاحب صنعة – تسري ممن ينتسب إليها مسرى الدم من الجسد – على التشبُّث بتلك الصنعة.

وإذا بدا التشبيه أعلاه مستفزاً لكاتب فليس من غاية لهذا الحديث أسمى من أن ينزع عن الكتابة مسوح القداسة إذا أصرت الكتابة على أن تسحب تلك المسوح فتتدثر بها دون غيرها من الصنعات على شاكلة الهندسة والمحاسبة وفلاحة الأرض، على سبيل المثال بطبيعة الحال.

ومع ذلك، وأنا أكتب، لا أزال في صراع يبدو أبدياً مع سطوة الشعور بالفرادة، وهو شعور مشروع إلا إذا أنكرتُ على غيري من أصحاب الصنعات المرموقة والمغمورة أن ينعم به وأن يبكي على فراقه إذا هَمّ طارئ فحمله على أن يقلع عنه ولو لوقت قصير. ونضرب الذكر صفحاً عن الطلاق القسري البائن بين صاحب صنعة يعشقها وصنعته تلك حتى إذا كان تفسير الإصرار على رباط الزواج المقدّس عصيّاً، فالطلاق القسري البائن هو أسوأ كوابيس أصحاب الصنعات المهووسين بقدَرهم، وفي هذا لا نقاوم إغراء العودة إلى ردّ كل نزعة غريبة تجاه ما نحبّ إلى سيرتنا مع الحياة الأم:

كُلُّ دَمْعٍ يَسيلُ مِنهَا عَلَيْها *** وَبِفَكّ اليَدَينِ عَنْها تُخَلّى

Exit mobile version