nasdahab@gmail.com
التفكير خارج الصندوق إحدى بدع هذا الزمان من أنماط التفكير غير الاعتيادي التي شغلت كُتبها الإرشادية أرفف المكتبات وأهلكت عناوينُها محركات البحث على الإنترنت. تميّزت هذه البدعة بعنوان شديد الجاذبية يشير إلى فكرة آسرة تبدو بسيطة وتغري كل مفكر محشور في صندوق بالفكاك من أسر الصندوق حتى إذا لم يكن ضائقاً بذلك الأسر أو مدركاً له أصلاً.
أهم ما في التفكير خارج الصندوق أنه يعين على حل مشكلة ماثلة لم تفلح الحلول المتداولة في القضاء عليها وذلك باستدعاء نمط جديد من الأفكار خارج ما تمليه الخبرة المعتادة لحل المشكلة، وهو كما يبدو أسلوب تكتيكي يــُـعنى بحل المشكلات الواقعة وابتداع حلول أكثر يسراً وأعم فائدة من الحلول المجرَّبة المقـيـَّـدة بثقة الناس الطاغية فيما أملته خبراتهم الخاصة والمُعمَّمة.
ومثل كل بدع التفكير غير الاعتيادي فإن التفكير خارج الصندوق لا يخلو من صعوبة ولا يجني ثماره كلّ من اطّلع عليه على عجل من أجل اختباره، بل يستدعي نجاحُه الإقبالَ عليه بصبر ويقين، وهو في هذا يشبه الدعاء الذي يتطلّب لاستجابته إخلاص النية والإيقان بالاستجابة ابتداءً. وربما كان ذلك طبيعياً، فلو كان الولوج إلى دروب التفكير غير التقليدية يسيراً لأصبح العالم خلواً من المشاكل، وهو شيء رائع لا يعيبه سوى أنه من الأحلام، ولو كانت شروط استجابة الدعوات ميسرة لأصبحت الدنيا حالة مستمرة من فوضى الصراع المحتدم كما في قصص مصباح علاء الدين الشهيرة عندما يقع على المصباح شرير القصة، أو أصبحت الدنيا حالة مستمرة من الملل إذا تخيلنا أن المصباح ظل مع الطيبين الذين لا تخبرنا الحكايات الحالمة بمآلهم بعد النهايات السعيدة قبل أن يدركهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات.
إذا كان صندوق الأفكار من العمق بمكان فإن كتاب “كيف تفكر خارج الصندوق” لن يكون مسعفاً بمفرده، فالأرجح أن المحشور داخل أفكاره في تلك الحال سيحتاج إلى يد تمتد لانتشاله، لكن الأدهي أن يكون الصندوق من الاتساع بحيث يتجوّل المحشور داخله في براح فلا يدرك أنه محشور أصلاً.
ولأن الضيق مسألة نسبية فإن الواحد قد يأنس من العادات والتقاليد بما يشعره أن صندوقهما من السعة بمكان عظيم، هذا إذا لم يكن الواحد يسعى سعياً إلى أن يحشر أفكاره داخل صندوق عاداته وتقاليد مجتمعه خصوصاً عندما تهجمه أفكار جديدة لا يفهمها تماماً، ولهذا فإن ردّ كثير من الناس على عنوان الكتاب المذكور- عندما يتعلّق الأمر بأنماط حياتهم التي تدخل في باب العادات والتقاليد وليس باب المشاكل – هو: “ومن قال إنني أودّ الخروج من الصندوق؟”.
في باب معالجة الحياة إجمالاً – على اعتبارها المشكلة الكبرى – خارج نطاق عادات الفرد وتقاليد المجتمع، فإن السؤال الأخير يأتي من أحد اثنين: جاهل بالغ الجهل (ويدخل في حكمه الكسول بالغ الكسل) أو مفكر عظيم الأفكار. أمّا الجاهل بالغ الجهل والكسول بالغ الكسل فهما وشأنهما، ذلك أن بقاءهما على قيد التفكير نعمة في ذاته أياً ما كان موقعهما وهما يفكران، ولكن ما شأن المفكر عظيم الأفكار؟
سِيَر المفكرين العظام الذين قلبوا (عدلوا ؟) التاريخ بأفكارهم تشير إلى أنهم من مدمني التفكير داخل الصناديق، غير أنها صناديق من صنعهم، فهم يبتدعون أطراً (ستة منها كفيلة بتشكيل صندوق) غير مألوفة يثور عليها الناس فلا تزيد تلك الثورة المفكِّرَ إلا إصراراً على البحث داخل صندوقه المبتدَع عما يثبت صحة أفكاره وإمكانية رواجها. والمفكر العظيم شرس في ذلك البحث أيما شراسة بحيث إذا مددت يدك إليه لتنتشله من صندوقه فإن رده لا يكون عادة بأقل من أن يسحبك إلى داخل الصندوق ويشغلك بأفكاره في الداخل حتى تقرّ بها أو تجهر بالاعتذار عن التطاول وتطلب الإذن بالفرار ناجياً بالقدر الذي سلِمَ من أفكارك.
وهكذا يظل المفكر العظيم يلحّ على أفكاره المبتدعة من داخل صندوقه حتى يقرّ بها الناس، فإن فعلوا خرجوا من صناديقهم القديمة ليس إلى الفضاء كما أوهمهم الرجل، ولكن ليقعوا أسارى التفكير داخل صندوقه الجديد.
لا بأس بقراءة كتاب يعينك على أن تخرج من صندوق أفكارك القديمة، ولكن اقرأ بحذر أولئك الذين يدعونك إلى التفكير من داخل صناديقهم حتى إذا كانت جديدة.