في 14 نوفمبر الماضي زار توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية منطقة طويلة. وقال خلال الزيارة إن المعاناة التي يعيشها النازحون «لا تُعبِّر عنها الكلمات».
لا توجد إحصائية دقيقة حتى الآن بعدد النازحين في طويلة، لكن يُمكِنُ تقدير عددِ الذين وصلوا مع موجة النزوح الأخيرة، عقب سقوط الفاشر، بحوالي 30 ألفاً، بينما يُمكِنُ تقدير النازحين الذين وصلوا إليها منذ استيلاء الدعم السريع على معسكر زمزم في 11 أبريل الماضي بـ 600 ألف إلى 700 ألف نازح، بحسب ما أخبر عمران، أحد أعضاء غرفة طوارئ طويلة «أتَـر».
وبحسب منظّمة الهجرة الدولية، تدفَّق إلى طويلة أكثر من 400,000 نازح جديد منذ أبريل 2025، إضافةً إلى نحو 80,000 نازح كانوا موجودين فيها قبل هذا التاريخ.
يقول عمران إن معسكر دبة نايرة هو أكبر المعسكرات حول طويلة، وتوجد معسكرات أخرى مثل طويلة شرق وطويلة غرب ومعسكر طينة ومرتال ومسل وطندبة. وبحسب المجلس النرويجي للاجئين، فإن النازحين يقيمون في 20 موقعاً مخصصاً للإيواء، منها 11 موقعاً داخل طويلة تشمل أربعة معسكرات جديدة هي A وB وC وD التي تستضيف وحدها نحو 213,099 شخصاً، و9 مواقع أخرى في المناطق المحيطة.
وتَشمل المُعسكرات معسكر رواندا، دالي، دبّة نايرة، أرغو، بارغو، طويلة العمدة، مدينة طويلة، حلة نعمة، دوبو العمدة، وخزان تنجر. ويقول عمران إن غرفة طوارئ طويلة هي إحدى الغرف التي تقدم الاستجابة الطارئة وليست هناك أنشطة محددة تتقيد بها، إنما تسد الفجوة في الاحتياجات الطارئة للنازحين، وتُجلي العالقين في الطريق إلى طويلة أحياناً، كما تُدير عدداً من المطابخ بلغ عددُها نحو 30 مطبخاً في الفترة التي أعقبت سقوط مدينة الفاشر، وتقدم مواد الإيواء من الأغطية والمفارش، فضلاً عن توفير مستلزمات النساء.
لقد أصبحت طويلة وما حولها من معسكرات تأوي عدداً أكبر من النازحين من الفاشر في الأسابيع الماضية. وبحسب عمران، فإن غرفة طوارئ طويلة تتلقّى الدعم من جهات مختلفة، منها منظمات دولية، بعد تقديم تصوُّرها عن الاحتياجات، ويضيف أن هناك منظمات أخرى ترسل دعماً من أجل التدخل السريع، فضلاً عن مِنَحِ الخيّرين ومساهمات المجتمع المحلي. وعلى الرغم من وجود العديد من غرف الطوارئ التي تحاول الاستجابة مثل غرف طوارئ جبل مرّة ووحدة المرأة الآمنة، لا تزال الاحتياجات تفوق طاقة مجموعات الاستجابة، وتتمثل في توفير المياه ومواد الإيواء والغذاء، إضافة إلى توفير المستلزمات الصحية للمراكز لتقديم العلاج للجرحى والمرضى، إذ تُشكل أمراضٌ مثل الملاريا والكوليرا تحدّياً أمام المراكز الصحية والمُنظّمات التي تُقدّم الخدمات الصحية.
تصف هناء عضو غرفة طوارئ طويلة، وضع النازحين بالمتردّي، خاصة أن الحزن يُخيّم عليهم: «لقد فقدت أغلب الأسر الأبناء والبنات، وهناك بعض الأسر لم يبقَ منها سوى فردٍ واحد، ولا يُمكنني وصف مقدار الحزن الذي يعيشونه، إنهم لا يملكون شيئاً لخدمة أنفسهم ويحتاجون إلى مساعدات كبيرة جداً نعجز نحن في غرف الطوارئ عن تلبيتها».
وتقول هناء إنهم يحاولون أن يكونوا على استعداد دائم لإنقاذ الواصلين حديثاً من الجوع والعطش، ويُعِدُّون ما بين وجبتين إلى أربع وجبات كل يوم. ويبلغ عدد غرف الطوارئ 22 غرفة، تُعِدُّ الوجبات جماعياً، وعلى الرغم من أنهم يديرون 31 مطبخاً، إضافة إلى مطابخ تديرها جمعيات وتكايا أخرى، إلا أنها لا تُلبّي الاحتياجات. تقول: «هناك حاجة ماسّة إلى المياه، كما أننا ندخل حالياً فصلَ الشتاء، ما يزيد من الاحتياج إلى مواد الإيواء والأغطية».
تأثّرت هناء خلال حديثها وتوقفت عن الكلام قليلاً قبل أن تواصل وصفها: «هناك من يملكون فِراشاً وحيداً فقط أو ثوباً يُستخدم خلال النهار للتغطية من أشعة الشمس، وعند المساء يُستخدَم فِراش للنوم عليه أو تغطية الأطفال. لقد أثّرت هذه المشاهد في نفسي كثيراً، إذ لا أستطيع تقديم المساعدة ونرجو أن يساعد الناس في هذا الخصوص. نحن نُعِدُّ الأرز والمكرونة ونُضيف إليهما اللحم، ونستهدف الأسر القادمة حديثاً، ننقل الطعام إلى أماكنهم «بالتكاتك»، ويقف الناس صفوفاً للحصول على وجبة. هناك احتياجات تخصُّ النساء، فالدورة الشهرية لا تعرف ظروف الحرب، ويُؤثر فيّ كثيراً أن تكون هناك امرأة في هذا الوضع ولا تستطيع أن تطلب فوطة صحية، إنه لأمر مؤسف جداً، وأرجو أن تُلبَّى احتياجات النساء الخاصة كالفوط الصحية لأنها تحفظ كرامة المرأة، وهناك نساء نزحن بقطعة ملابس واحدة ولا يستطعن تغييرها، كما نحتاج إلى مساحات آمنة للنساء، فهناك من يعانين من الصدمة، وهناك من تعرَّضْنَ للاغتصاب، ومن الضروري توفر المساحات الآمنة لتجاوز هذه الحالة، كما يمكن تقديم مشاريع صغيرة للنساء لإشغالهن عن الذكريات السيئة، عساهنّ يَنسين الظروف التي مرَرْنَ بها. من الصعب نسيان ذلك بالتأكيد، لكن المساحات الآمنة قد تشغلهنّ عن التفكير في ما حدث لهن».
منذ بداية الحرب
عندما اندلعت حرب 15 أبريل وجد مواطنو طويلة أنفسَهم تحت الحصار على الفور، ولم يكن بوسع الناس الذهاب إلى مزارعهم أو الابتعاد عن المدينة بسبب النهب المسلّح الذي انتشر على الطريق بينها والفاشر، وكانت بعض قوات حامية الجيش والشرطة وقوات الاحتياطي المركزي الموجودة في طويلة قد انسحبت في وقت سابق، بينما توجّهت قوة أخرى لإجلاء قوات الشرطة والاحتياطي المركزي من مناطق شرق جبل مرة إلى طويلة ومن ثم إلى الفاشر.
متحدّثاً لـ«أتَـر» يروي أحد الشهود وقائع تلك الأيام، قائلاً إنه في يوم 13 يونيو 2023 فشلت محاولة الانسحاب بعد وقوع اشتباكات بين القوة المنسحبة وقوات الدعم السريع، وكانت تلك بمثابة الشرارة. وفي يوم 16 يونيو شنّت قوات الدعم السريع هجوماً على مدينة طويلة ومعسكرات النازحين، ووقعت اشتباكات مسلّحة بينها وبين القوات التي تحصّنت بحامية الجيش. يضيف: «لم تسقط الحامية حينها، لكن تضرر المدنيُّون بشدة، ونهبت قوات الدعم السريع السوق».
وعلى الرغم من إقرار هدنة لثلاثة أيام بين الطرفين برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية في 18 يونيو 2023، لم تتوقف المواجهات المسلحة في طويلة، وعاودت قوات الدعم السريع الهجوم على المدينة في يوم 19 يونيو.
كانت نتيجة الهجوم المتوالي على طويلة سيطرة الدعم السريع عليها. لقد شهد محمد يعقوب، مدينته وهي تتعرّض للاجتياح. يقول عن ذلك: «كان يوماً مشؤوماً وحزيناً، سقَطَتْ حامية الجيش وانسحبت بعض قواتها إلى الفاشر، واستباحت الدعم السريع المدينة، وارتكبت انتهاكات ضدّ المدنيين راح ضحيتها قتلى وجرحى ومفقودون، وفقدت أسرتنا جميع ممتلكاتها من المحاصيل والماشية، واحترق منزلنا جزئياً، ونزحت أسرتي إلى معسكر نيفاشا بالفاشر، ولم نعد إلا بعد سنة ونصف».
وبحسب يعقوب، استمرت قوات الدعم السريع في استباحة مدينة طويلة لأكثر من ثلاثين يوماً، بينما فرّ جميع السكان من المدينة، وكانت قوات الدعم السريع تشعل النيران في بعض المنازل في إشارة للمليشيات المتحالفة معها بتأمينها للمنطقة وتحذيراً لسكّان القرى المُجاوِرة، وعندما تغادر هذه المليشيات مساءً حاملة ممتلكات المواطنين كان أفرادها يُحرقون بعض المنازل لتنبيه أفرادهم للمغادرة. وعند منتصف الليل يُخاطر بعض المواطنين الذين يختبئون في مناطق قريبة بالعودة إلى منازلهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ومنذ سبتمبر 2023 تُسيطر قوات حركة تحرير السودان التابعة لعبد الواحد محمد نور على طويلة بعد اشتباكات اندلعت بين قواتها وقوات الدعم السريع، أفضت إلى سيطرة الحركة.
وفي مطلع أكتوبر 2024 أعلنت حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور وتجمّع قوى تحرير السودان بقيادة الطاهر حجر، تشكيلَ القوة المحايدة لحماية المدنيين. وعلى الرغم من أنّ بيان تشكيل هذه القوة لم يُشِرْ إلى مكان وجودها، إلا أن بياناً صدَرَ لاحقاً في يناير 2025 أشار إلى اتخاذ طويلة نقطة تحرّك لمجموعة من القوة المحايدة، قبل أن تتعرَّض إلى هجومٍ من قوات الدعم السريع في بوابة كبكابية.
إلا أنّ القوة المحايدة التي جرى تكوينها مع قوات الطاهر حجر، لم يعد لها وجود بسبب انضمام الطاهر حجر إلى تحالف تأسيس، كما يشير الناطق الرسمي باسم حركة تحرير السودان (قيادة عبد الواحد) محمد عبد الرحمن الناير في حديثه لـ«أتَـر»، خاصة أن أحد شروط تكوين تلك القوة هو أن تظلّ على الحياد. وبحسب الناير فقد أخلّ التجمّع بهذا البند. وقال: «إن التحالف الذي أنشأ تلك القوة لم يعد له وجودٌ على الرغم من أنه لم يَصْدُرْ بيانٌ رسميُّ بهذا الخصوص».
حالياً: كيف تبدو طويلة؟
يقول محمد يعقوب، إنّ سكان طويلة في الوقت الحالي إما أنهم كانوا يسكنونها وعادوا إليها في نزوح عكسي أو أنهم نازحون إليها من مناطق أخرى طلباً للأمان، ويضيف: «اليوم بعد نشوء المعسكرات ازدادَتْ المساحةُ السكنية، والتصقت بعض المعسكرات بالمدينة مثل معسكر رواندا الذي كان يقع شمال المدينة والذي لم يعد يفصل بينه وبين المدينة سوى شارع ترابي، هو الطريق القادم من الفاشر ويُفضي إلى كبكابية، بينما التصق معسكر بارغو بالمدينة من الناحية الغربية، وتقع ثلاثة معسكرات جنوب الوادي، وهي معسكر طويلة العمدة ومعسكر دبة نايرة وشكشكو، وتبعد حوالي ثلاثة كيلومترات من المدينة».
وبشأن التغييرات التي أحدثها النزوح يقول محمد يعقوب: «لقد بدأ الناس يستخدمون عربات «الكارّو» للمواصلات بين الأحياء والسوق، وهو أمر جديد رأيناه مع النازحين، حيث كان ذلك شائعاً في معسكرَي زمزم ونيفاشا في الفاشر، بينما كان أهل طويلة يُفضِّلون المشي على الأقدام، ويَستخدمون عربات الكارو في المزارع فقط».
وتتنوعّ مصادر المياه في المدينة بين الآبار التي تَعمل بالوابورات أو بأنظمة الطاقة الشمسية، وهي أيضاً مصدر الطاقة الكهربائية في المدينة، وبعض الآبار تحتاج إلى استخدام الدلو لاستخراج المياه وتسمى «السانية». يقول محمد يعقوب: «ننقل المياه من الآبار عبر تناكر المياه الموضوعة على عربات الكارّو، وأحياناً نضطرُّ لشراء المياه ويبلغ سعر البرميل ثلاثة آلاف جنيه».
يضيف يعقوب: «لا تزال التجارة والزراعة تمثل مصادر الدخل الرئيسة في طويلة، وهناك زيادة كبيرة في الباعة المتجولين خاصة الأطفال، ومن النازحين من يعملون في مزارع سكان المدينة».
كما توسع سوق المدينة وبُنيت دكاكين جديدة، وظهرت متنزهات وكافيهات ومناطق سياحية لم تكن موجودة من قبْل، ويُعَدُّ العمل لدى المنظمات التي تعمل في طويلة أبرز مصادر الدخل الجديدة فيها.
