طه سليمان: حين يصبح الفنُّ موقفًا، وتغدو النجومية وفاءً للوطن

الأستاذ/ موسى داؤد
التقيتُ طه سليمان بعيدًا عن ضجيج المسارح، في ماليزيا، يوم كان في بداياته الأولى، شابًا نديّ الروح، طيب القسمات، لا يفارقه ذلك الابتسام الصافي الذي يشبه نوايا القرى. كان يضحك بعمق حين يلتقي السودانيين، ضحكة من يعرفهم ويحبهم، ويتبادل معهم الحديث عن السودان كمن يستعيد وطنه قطعةً قطعة، بحنينٍ دافئ لا تشوبه ادعاءات النجومية. أعجبني يومها أسلوبه في الحياة قبل فنه، طريقته في الاقتراب من الناس بلا مسافات، وفي الإصغاء إليهم كأن كل واحدٍ منهم أغنية تستحق أن تُسمع حتى آخر نغمتها. وحين عدتُ إلى السودان والتقيته مجددًا في حوش التلفزيون، استقبلني بذات القلب المفتوح، بذات الاحترام النبيل، كأن الغياب لم يكن سوى سطرٍ قصير بين لقاءين. كنا نلتقي أمام مكاتب إدارة الأخبار والشؤون السياسية بتلفزيون السودان، وهو يتحضّر للتسجيل مع قناة النيل الأزرق في برنامج «أغاني وأغاني»، وفي كل مرة كان يمرّ على الجميع، يسلّم بمحبة، يوزّع طاقته الإيجابية بسخاء، ويجعل المكان أخفّ وطأة، كأن حضوره وحده يرمم شيئًا من تعب الأيام. كان يأتي ومعه كثير من الفنانين، يحتفي بنجوم الغد كما لو كانوا نجومه، لا يتعالى ولا يتقدّم عليهم إلا بخُلقه، مؤكّدًا أن الفن مشاركة لا مزاحمة، وأن الضوء يتسع حين نتقاسمه.
ثم جاءت الحرب، وانكسرت المدن تحت هدير القذائف، وتبعثرت الأرواح بين المنافي والانتظارات الثقيلة، فاختار طه سليمان أن يكون حيث يجب أن يكون الإنسان قبل الفنان. لم يغادر حيّه العتيق شمبات في الخرطوم بحري، ولم يبحث عن نجاةٍ شخصية ملساء، بل آثر البقاء وسط أهله، يشاركهم الخوف والجوع والعطش، مؤمنًا بأن الانتماء لا يُعلن بالكلمات بل يُثبت بالفعل، وأن الفن إذا لم يتحوّل إلى موقف في ساعة المحنة يفقد جوهره ومعناه. ظل حاضرًا بين الناس رغم القصف وضيق العيش، يسير في الأزقة بوجهٍ أنهكته الحرب ولم تنل من عزيمته، يمدّ يده للضعفاء، يشدّ من أزر المنكوبين، يسهم في خدمة التكايا، يشارك في علاج المرضى، ويقف سندًا لكبار السن والأطفال، كأنما قرر أن يجعل من بقائه رسالة صامتة تقول إن الغناء بعيدًا عن الألم لا يداويه، وإن المشاركة الصادقة أبلغ من ألف نشيد. كانت أبواب السفر مشرعة أمامه، وكانت شهرته وقدرته المادية كفيلتين بأن تؤمّنا له حياة آمنة خارج الوطن، لكنه اختار أن يعيش ما يعيشه أهله من انقطاع الماء وغياب الدواء وخراب الأسواق، فصار وجوده بينهم عزاءً خفيًا، وصار اسمه يتردّد لا كفنانٍ فحسب، بل كواحدٍ من الناس. سخّر حضوره ومنصاته للتعريف بالاحتياجات الإنسانية العاجلة، وشارك شباب وشابات الحي في جمع الدعم وتوزيعه، حاضرًا بجسده قبل صوته، وبفعله قبل شهرته. ومع أن الحرب سرقت من ملامحه شيئًا من وسامته المعهودة، فإنها منحته وسامةً أعمق في عيون السودانيين، وسامة الموقف الذي لا يلين، والقامة التي لا تُقاس بالصورة بل بالثبات. لم يتوقف عند حدود الإغاثة، بل حاول أن ينتزع للأطفال لحظات فرح صغيرة من فم الحرب، ليعيد إلى الأرواح المنهكة بعض طفولتها، فصار الغناء فعلًا إنسانيًا، وصارت النجومية مسؤولية أخلاقية لا زينة عابرة. هكذا دحض طه سليمان مقولة «زامر الحي لا يطرب»، وأثبت أن الصدق وحده يمنح الصوت قيمته، وأن الفن يبلغ ذروته حين يقترن بالفعل النبيل، فغدا في زمن الحرب القاسية عنوانًا للشهامة، ودليلًا على أن السودان ما زال بخير ما دام فيه من يحوّل الموهبة إلى ضمير، والنجومية إلى وفاء.
Exit mobile version