شعب لا ينكسر

 

علي عسكوري 

الان بوسع شهدائنا أن يحتفلوا في عليائهم بأن دمائهم لم تذهب هدرا، وان الرجال من بعدهم واصلوا المسير الصعب حتى انجزوا ما استشهدوا من اجله! ذلك هو قمة الالتزام بما يتعاهد عليه مواطنو اى دولة: ان لا تذهب دماء الشهداء سدي! فالوفاء للشهداء يكتمل بتحقيق الهدف الذى استشهدوا من اجله وفي سبيله.

لقد كلفتنا هذه الحرب رهقا من دماء ابنائنا الذكية، فقد صمم ابناؤنا على النصر وانتصروا، رغم الدماء الغالية والتكاليف الباهظة. لكننا اليوم امة مختلفة وشعب منتصر.

تركت معارك تحرير الجزيرة والخرطوم آلآما و جراحا غائرة في كل فرد منا وفي مجتمعنا ربما سيطول اندمالها ان اندملت اصلا، ومن الخطأ الكبير تجاهلها او محاولة تجاوزها بالقفز فوقها. فالناس لم يعودوا هم الناس ولا المجتمع هو ذات المجتمع قبل الحرب. ومن الضرورى ان نكتب عن ما حاق بنا وبمجتمعنا، فالبوح بالجراح والالام والاحزان وتوثيقها يساعد في التعافي المجتمعي.

أكدت الحرب للذين لا يعرفونا اننا شعب لا يهاب الموت ولا تخيفنا قعقعة الشنان، ولسنا امة مهيضة الجناح تتسول حمايتها عند دول اخري! لقد اثبت ابناؤونا في الجيش وكتائب المستنفرين مرة بعد الاخري انهم قادرين على حماية حياضهم والزود عنها بالغالى والنفيس فما وهنوا ولا ضعفوا حتى انتصروا، رغم اجتهاد الكثيرين (تعرفونهم) في غمط انتصارنا وتسفيهه. يلحنون في القول وكأننا لم ننتصر، يسمون انتصارنا اى شىء عدا انتصار، لكن ليس بوسعهم تغطية الشمس بأصابعهم، فما حدث هو انتصار باهر لم يحققه اى شعب في افريقيا، تلك هى الحقيقة التى لا يودون قولها! ومن واقع قراءتى واطلاعي على تاريخ حروب المدن في بلدان مختلفة، استطيع الادعاء ان ما حققه الجيش السودانى وقوات جهاز المخابرات والمستنفرين يعتبر معجزة عسكرية بكل المقاييس، وآمل ان يقوم الكتاب ذوى الخلفية العسكرية بالتوثيق الكامل لهذه المعجزة، بأكثر من لغة حتى تعلم شعوب العالم ما انجزته قواتنا وما انجزه شعبنا.

واحدة من اكبر عيوب امتنا اننا لا نكتب ولا نؤرخ انجازاتنا بصورة احترافية، ولذلك يتم تزوير تاريخنا من اخرين حسب ما يروق لهم. هنالك مثل افريقي اذكره دائما يقول:” الى ان يكون للأسود مؤرخيها، سيظل تاريخ الصيد يمجد الصيادين”. بمعنى ان بطولات الاسود ضد الصيادين تذهب سدى، لانها ليس لها مؤرخين ليسجلوها.

إن الواجب يقتضى على الكتاب والباحثين تسجيل هذا التاريخ وهذا الانتصار بصورة احترافية، وذلك ليس فقط لتسجيل البطولات، انما هو حق الاجيال القادمة علينا حتى يعلموا ماذا انجز اسلافهم وكيف دافعوا عن وطنهم! ذلك فقط ما يضمن لنا استمرار البطولات والمجد.

يعلم المتآمرون ان هذه الارض التى نسكنها هى ارضنا، ارض اجدادنا وستظل ارض احفادنا، نحن فقط من نقرر مصيرها..! جاؤوا بمليشيا او مرتزقة لا فرق، ستظل الارض ارضنا والسودان وطننا شاء من شاء وابي من ابي، وليركب المتآمرين اعلى خيلهم، فنحن شعب لا ينكسر تلك هى الحقيقة التى يكرهونها!

جمعوا وما ابقوا، اشتروا العتاد والسلاح والمؤون والذخيرة مما لا يخطر على بال، واعتقدوا ان الامر مجرد نزهة وستستتب لهم الامور ليحولوا شعبنا بكامله لسخرة وخيولا تسحب العربات في مستعمرتهم الجديدة تحت سيطرة مليشيا منحطة بلا قيم او اخلاق تضطهدهم في وضع اقرب للاسترقاق. خططوا لامتلاك ارضنا ليفعلوا بها مايشآؤون. حسبوا ان بوسعهم بملاقيط الصحراء ومرتزقة مأجورين كسر ارادتنا وطردنا في فجاج الارض، لم يتركوا شيئا لم يحسبوه جهزوا وراجعوا تفاصيل التفاصيل ولم يبقوا. وهم اذ يراجعون ادق التفاصيل والتجهيزات للانقضاض على الفريسة فات عليهم حساب اهم عاملين سقطا من حسابهم الفج، وهما ما قادا في النهاية لهلاك ودحر مليشياتهم وخروجها صاغرة منكسرة تجرجر اذيال الخيبة والعار.

اخطأوا اولا في حساب عزيمة شعبنا على التمسك بارضه والموت دونها، اما خطأهم الثاني القاتل فكان في حساب بسالة وجسارة ابنائنا للزود عن ارضهم ووطنهم و شرف فتياتهم وسيادة شعبهم.

في الحروب عامة يمكن حساب نوع سلاح الجند في الجهة المقابلة وذخيرته، ونوعها وقوتها التدميرية و مهارة الجنود في استخدام السلاح المتاح الخ.. لكن ما يشكل معضلة للقادة وما يصعب حسابه هو بسالة الجنود في الجهة المقابلة وعزيمتهم على القتال والصمود، فالبسالة والصمود و الشراسة في القتال كلها امور سايكولوجية عند الجند يصعب على القادةحسابها، و لذلك ظلت دائما تربك حسابات القادة و تشكل فارقا جوهريا في المعارك .

كان مقتل من خططوا للحرب سوء تقديرهم لبسالة جنودنا، وكان تقديرهم انهم سيولون الادبار عند اول طلقة، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا انهم يواجهون جيشا من الاسود الكاسرة، فاسقط في يدهم وارتبكت حساباتهم الى ان دحروا وولوا الادبار صاغرين، تاركين خلفهم موتاهم والكثير من العتاد!

من تاريخ الحروب الطويل بين البشر عبر الحقب والازمان، خلصت البشرية الى ان اى حرب ضد شعب على ارضه حرب خاسرة مهما امتلك المعتدى من سلاح..! كانت تلك خلاصة ومحصلة الحروب الاستعمارية، و في التاريخ القريب قدمت حرب فيتنام وكمبوديا وافغانستان (الروس والامريكان) والعراق والصومال امثلة قريبة للذاكرة. نتائج هذه الحروب اكدت ما هو معروف من التاريخ بالضرورة، ان منازلة اى شعب في ارضه منازلة خاسرة وان طالت (بيرود)!

ولأن هذه الحقيقة اصبحت من مسلمات التاريخ، تفتقت عقلية الامبريالية في حروبها عن خدعة جديدة، فتبنت سياسة شن الحروب بجماعات من ذات البلد تزودها بما تحتاج من عتاد مع توظيف واستغلال الاعلام والمنظمات الدولية لتطفيف جرائمها. تقوم فرضية الامبريالية على ان غزو الشعوب بجماعات من بنى جلدتها يضعف عزيمة الشعوب على النهوض للدفاع عن الارض بحكم ان ما يجري صراعا داخليا وليس غزوا خارجيا. تستبطن هذه الخدعة انطلاء الامر على الكثيرين، او (تخفيف) تهمة العمالة عليهم، ليتخذوا حيادا مزعوما (القحاتة) و (صراع جنرالين) مثلا! بينما في حقيقة الامر ان من يشنون الحرب وما يدعون الحياد ما هم في حقيقتهم الا ادوات فعلية وواجهات تختبيء خلفها الامبريالية العالمية، رهنوا انفسهم لها واسرجوا خيولها الخشبية.

بالطبع، لم تنطل الحبكة الفطيرة على الشعب السودانى، فنهض بكلياته مدافعا عن ارضه ووطنه، واستبسل، وبذل وضحي وقدم ارتال من الشهداء وما ابقي، و كانت المحصلة النهائية هى الحقيقة التاريخية التى اشرنا لها: لا تقاتل شعبا على ارضه..!

عندما نادينا بضرورة تسليح الشعب وتجهيز المقاومة الشعبية وتسليحها، قامت قيامة وكلاء الامبريالية محذرين من تلك الخطوة ومن الحرب الاهلية وما الى ذلك. وهكذا قدموا لنا اعترافا واضحا ان القتال الذى كان يدور وقتها لم يكن حربا اهلية، انما غزو خارجي كامل الدسم. وطالما كانوا يرون ان ما يجري لم يكن حربا اهلية لانهم حذرونا من وقوعها، فذلك يعنى بالضرورة انه كان غزوا خارجيا، وعليه توجب على كل القادرين على حمل السلاح النهوض للقيام بواجبهم الوطنى الاساسي: الدفاع عن الارض والسيادة. ببساطة لان السيادة لا تكون في الهواء انما على مساحة محددة ومعروفة من الارض.

واذ نهنىء شعبنا اليوم لا نهنيه بدحر المليشيا من العاصمة وغيرها، فذلك امر كان الجميع يعلمه منذ اول طلقة. فمثلا، لا يهنيء اى شخص نفسه بالذهاب للمخبز واحضار الخبز، لان هذه ممارسة عادية لا تستحق التهنئة، وهكذا الانتصار عند جيشنا وشعبنا، فأن ينتصر الجيش السودانى فتلك ممارسة ادمنها جيشنا، وانما التهنئة باعادة اكتشاف ذاتنا وقدراتنا واننا بوحدتنا نستطيع ان نحقق المعجزات! واننا اثبتنا للمتشككين والمرجفين اننا شعب مختلف واننا سادة افريقيا ولا فخر!

سيطول كابوس الامبريالية في محاولتها السيطرة على بلادنا، فقد كانت المليشيا آخر محاولاتها المستميتة، حتى ظنوا انهم قد نالوا مبتغاهم وهاهم يردون على اعقابهم خائبون!

ولأننا نعلم ان محاولات الامبريالية لن تتوقف، لذلك يقتضي الواجب علينا التوقف والنظر مليا في كامل احوالنا وطريقة حياتنا وادارة دولتنا واعادة التقييم لكل شىء حتى نبني دولة مهابة يتحاشاها الجميع!

وللمليشيا واذيالها الذين فروا كالحمر المستنفرة نقول:”تاني بتجوا” !!

هذه الارض لنا

نقلا عن “أصداء سودانية”

Exit mobile version