عبد الله علي إبراهيم
(يقال الخطأ في السياسة مأذون إلا الخطأ الذي لا عمار بعده. ولعل الخطأ المزلزل القاتل هو ما ارتكبته الحركة التقدمية في “تحررها” مما كنا نسميه المنظمات الجماهيرية وهي اتحادات النساء والشباب والطلاب والعمال. وكانت حجة المعارضين التقدميين على ذلك التحرر أن الإنقاذ لن تسمح بمثله وقد عرفت مغبته عن كثب من خبرتها في العمل السياسي في نفس الجبهات. وعادة ما قالوا لك وفي الإسلاميين كادر “صاقعة نجم” في تخريب كل ما لا يرضى عنه. ولما غادرت الحركة الحديثة المواقع التي كانت مكامن قوتها “وقعت” على العسكريين فيما عرف ب”الانتفاضة المحمية” (والحماية فيها هي المطلب لا الانتفاضة) وسلمت أمرها لها. ومتى سمعت عن الاتحاد النسائي كان عن “فرع لندن” ومتى سمعت بالنقابات فهي “النقابات الشرعية” في كل موضع عدا السودان. ولما عادت هذه الحركات بعد الثورة كانت أشباحاً تبحث عن نفسها. تصارعت صراع الوحوش حول قانون النقابات ولم تجرؤ على تكوين نقابة عمالية واحدة. وصارت “تنسيقية” تسبق حتى نقابات الصفوة بمثابة قطعة راس.
وهذه كلمة نعيت فيها الحركة التقدمية التي صارت تتكفف العالم إشراقات الحداثة لأنها فشلت في إنباتها بين أهلها كما فعل جيل الأربعينات ومن بعده. فإذا كانت من عبقرية للحزب الشيوعي السوداني فهي أنه لم يكن حزباً فحسب، بل كان حركة اجتماعية شاملة وطّن المعاني الدقاق في وطن آخر بين النساء والشباب والطلاب والعمال والمزارعين. وصدرت هذه الحركات الاجتماعية في أشواقها عن نفسها وفي توقيتها وبإمكانيتها وفي جدل مع مجتمعها وعراك أولاً وأخيراً. كان مرجعنا في تحرير المرأة برنامج الاتحاد النسائي لا سيداو.
إلى المقال القديم:
تسود دوائر الحكم والإعلام في أمريكا شفقة على جماعتين ستتركهما من ورائها في أفغانستان بعد انسحاب أمريكا منها. والجماعتان هما “عملاء” أمريكا، أي أولئك الذين أعانوها في مهامها في بلدهم بصور مختلفة. أما الجماعة الثانية فهي، للأسف، النساء اللائي ستنقض عليهن طالبان العاقبة للأمريكان وتردهن سيرتهن الأولى حريماً بعد تحرر. ومن بين الجماعتين فالفرج ل”عملاء” أمريكا ميسر بأخذهم إلى أمريكا. وبالطبع فلا سبيل لأخذ نساء أفغانستان عن بكرة أبيهن لأمريكا. وسيكون من الصعب، متى صحت شفقة الأمريكان، وصف حظ النساء من الحقوق في أفغانستان ك”تحرر” طالما أرتهن بوجود الأمريكيين. فهو في الحق “تحرير” مفروض من عل من قوة لها وصاية من نوع ما على الخلق. وجربنا في السودان هذا التحرير الوصائي في صورة قانون محاربة الختان لعام ١٩٤٦ الذي وقع لنا بإرادة قوة أجنبية سيئة الرأي في ثقافتنا وسدنتها من الرجال.
ومعروف مثل هذا الاستنقاذ للنساء من أمتهم ب”الإسعاف الاستعماري” (colonial rescue). وكانت نساء الهند أحد ميادين تطبيقه الكبرى.
طرأ لي إطار الإسعاف الاستعماري هذه طوال تفكيري في سيداو. ومع أنها وثيقة للحقوق صادرة عن الأمم المتحدة، التي لا سبيل لمقارنتها بالاستعمار إلا أن شرعيتها، مثل إنقاذ الاستعمار، مؤصلة في غير البلد المعني بالاستنقاذ إلا من رحم.
وبالطبع لا بأس بسيداو لولا أن عالميتها هي أقوى حججها. فالتصديق عليها في عقيدة التقدميين أوجب الواجبات لأنها مما أجمع عليه العالم في منبره المعروف. ولا أجد لها مع ذلك صدى في حركة متغلغلة في أوساط النساء عندنا جميعاً. ولما لم نستنهض النساء في حركة لتحررهن أصالة جنحنا للتحرير وكالة باستنفار العالم وعهوده لتعزيز مسألتنا. فأضحت سيداو عندنا مثل تميمة مطلبية دولية نقابية. فمن ناهضها عصى الأمم المتحدة لا لأنه حر في هذا ودواؤه في حمله بالحكمة والموعظة الحسنة في سياق حركة نسائية جذورية تفرض أجندتها بثقلها السياسي والاجتماعي.
وبدا لي أننا ربما استسلمنا بشأن حقوق المرأة للإسعاف الأممي. فقرأت قبل أيام عن انعقاد المؤتمر الثالث لمنظمة بلان، فرع السودان بمدينة الأبيض، تحت شعار “البنات يقدن التغيير”. وناقش المؤتمر، الذي وفدت إليه مائة بنت من أرجاء السودان، قضية زواج الأطفال. وتحدث في المؤتمر رئيس مكتب كردفان للجمعية ومسؤولة مكافحة العنف ضد الأطفال في مكتب الجمعية بالسودان. ولا أعرف كثير شيء عن جمعية بلان ولكن واضح أنها منظمة عالمية من نوع ما ولها فرع في السودان وقائمة في “إسعاف” المرأة السودانية. وفوجئت بأنه لم تخاطب المؤتمر أي قائدة لأي منظمة نسائية في المدينة. وهكذا نرى بالعين المجردة تغلغل العالم في تحريرنا مما بنا حين أضربنا عن التحرر أصالة بحركة اجتماعية تحشد الأفئدة والعزائم لسن تشريعات تقدمية للمرأة تلغي مثلاً قانون الأحوال الشخصية لعام ١٩٩١.
السياسة في أبسط تعريفاتها أنها محلية، فلن تغنينا سيداو عن الاشتباك ظفراً وناباً مع حقائقنا غير الرحيمة وعلى مرأى ومسمع من القوى المحافظة أو الملتاثة. هذا إذا أردنا لحقوق النساء أن تتوطد لا يشفقنا عليها تقلب عالمي ليس بيدنا. وسنعطى سيداو نفسها صيتاً سيئاً إذا كانت هي كل حجتنا للتحرر. فلو كان لعالمية سيداو من نفع فهو في مساعدتنا إحكام نقدنا للقانون الوطني المعيب بحق النساء لا في أن تكون هي التنزيل لذلك الحق من سماء العالم.
ستعلم نساء أفغانستان متى أصابهن مكروه برحيل الأمريكان عنهن أن المتغطي بالعالم عريان. والعالم عريان بالفعل من بعض وجوهه. فبوسع أي مغالط في سيداو أن يفحم السيداوي بقوله إن أمريكا بجلالة قدرها لم تصادق على سيداو. فمعلوم أن أمريكا زجت بالاتفاقية في صراعها الثقافي القائم أبداً بين التقدميين والمحافظين. فتجمدت. فاعتزلها المحافظون لأنها، في تعريفها للعائلة وأدوار النساء والرجال، ستحطم العائلة التقليدية. وهذا ما يثيره خصوم سيداو عندنا. وعلاوة على ذلك فالعالم بصورة عامة يتقهقر أمام أعيننا عن المرامي التقدمية التي كانت الحداء والأمل. فنشرت “الفورنبوليسي” الأمريكية مقالة عن هذه الرجعة القهقري نوهت فيها بهمة النساء أنفسهن في هذه الرجعى. فجاءت بذكر منظمة المؤتمر العالمي للنساء الذي نشأ في ١٩٩٧ لترويج القيم المسيحية على نطاق عالمي. واستصحبت المنظمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لحماية الأسرة كالمرتكز الطبيعي والأساسي للمجتمع واجب الحماية من الدولة والمجتمع.
العالم يُنْتَقص الآن من أطرافه التقدمية. واستشهادنا به في مثل سيداو، نظن أنها القول الفصل، غير مأمون