الصاوي يوسف
الاقتصاد والتنمية
ستغير الحرب الحالية من نظرتنا لأنفسنا وستغير طرائق التفكير والعمل. ونأمل أن تكون بدايةً ليقظة كاملة تجعلنا نتّجه للعمل والتخطيط والعلم والإنتاج، بدلاً من الصراعات السياسية العدمية والتنافس السياسي المتعصب والصفري، وكذا الصراعات القبلية والجهوية المتخلفة والسطحية، وأن نتجه للاعتماد على أنفسنا وليس انتظار حلول جاهزة تأتي من الخارج، فليس هناك وجبة مجانية في هذا العالم، وما حك جلدك مثل ظفرك.
سأتناول بعض جوانب النهوض وإعادة البناء في هذه السلسلة من المقالات، بدءاً من الجوانب الاقتصادية والمالية، وإصلاح التعليم، والجوانب المجتمعية والثقافية، وأخيرا الإصلاح السياسي والإداري. ونبدأ بطرح خطوط عريضة عن الاقتصاد والتنمية نفصّل فيها في المقالات القادمة.
تجارب دولية
نهضت سنغافورة بعد انفصالها عن ماليزيا، بتبني سياسات اقتصادية إستراتيجية، والاستثمار في التعليم، خاصة التقني والعلوم والرياضيات واللغة الانقليزية، والاستثمار في البنية التحتية، وجذب الاستثمار الأجنبي، وتطبيق نظام سياسي وإداري صارم وحازم بقيادة لي كوان يو، وتنويع الاقتصاد (تصنيع، سياحة، مركز لوجيستي للتوزيع، تصفية البترول، خدمات مالية).
ونهضت ألمانيا (الغربية) وأعادت البناء بعد الحرب، عبر خطة مارشال التي ضخت 1500 مليون دولار (تعادل 15 مليار حاليا) وذلك عبر تغيير العملة وإعادة بناء الصناعات الثقيلة والبنية التحتية وخفض معدلات البطالة لدرجة الحاجة لاستيراد أيدي عاملة من تركيا والمغرب.
ونهضت الصين بعد الثورة الشيوعية (1949) بإقامة نظام سياسي قوي ومستقر، اهتم بمحو الأمية، وحقوق المرأة، والتعليم العام والرعاية الصحية الأولية، ثم تحولت بعد العام 1976 إلى النهضة الاقتصادية الشاملة بالتركيز على الانتاج والتصدير.
أما ماليزيا فقد نهضت باقتصادها عبر استغلال مواردها الطبيعية، خاصة المطاط وزيت النخيل، إضافة للنفط والغاز، ولكنها اجتذبت استثمارات ضخمة، خاصة من اليابان، في قطاع التصنيع (الالكترونيات وأشباه الموصلات، الأجهزة الكهربية والمنزلية) وتبنت سياسات القضاء على الفقر وتحسين توزيع الثروة وإلغاء نظام احتكار الوظائف الاقتصادية حسب الأعراق، وشهدت نموا متسارعاً حتى أنها عملت للحد من النمو الانفجاري الذي وصل 11 % في العام، مع استقرار سياسي وتشريعي حازم بقيادة مهاتير محمد.
ونلاحظ من القراءة السريعة لهذه التجارب أنها تختلف باختلاف البلاد وظروفها، ولكن أهم ما يجمع بينها هو الاستقرار السياسي، بعضها بعد حرب وبعضها بعد ثورة أو اضطرابات عرقية. ولكنها تنوعت فتراوحت بين النهوض بالتعليم، وجذب الاستثمار الأجنبي كما في حالة سنغافورة، واستغلال الموارد الطبيعية مع جذب الاستثمار وبدء التحول للتصنيع (ماليزيا) وإعادة إنشاء الصناعات الثقيلة وغيرها بمساعدة مالية أجنبية هي قروض مشروع مارشال (ألمانيا) وتحسين حياة المواطن عبر تحسين وتعميم التعليم والصحة والتغذية، قبل التحول الى اقتصاد الانتاج والتصدير (الصين). ونلاحظ أن كل الدول احتاجت إلى اجتذاب رأس المال الأجنبي للاستثمار في قطاعات مثل الصناعة والبنية التحتية والسياحة والخدمات، كما احتاجت إلى إصلاح التعليم لمواكبة متطلبات مرحلة النهضة والنمو الاقتصادي.
عوامل النهوض
ومن هنا يمكننا تلخيص عوامل النهضة الاقتصادية في بضع عناصر أساسية ومهمة هي:
الاستقرار السياسي، وعدم وجود حروب أو اضطرابات عرقية أو إضرابات عمالية. إذ لا بد من إقامة نظام يرتضي الناس العمل تحت ظله، بدلاً من إشعال التمردات المسلحة ضده، ولابد من وجود قوانين صارمة يلتزم بها الجميع ويخضع لسلطتها الجميع.
الاهتمام بالتعليم خاصة التعليم العلمي والتقني (العلوم والرياضيات واللغة الانقليزية) والتدريب المهني والتقني لتخريج العمالة الماهرة وسد حاجة السوق وخفض البطالة.
وفرة الموارد الطبيعية الضرورية والميزات الجغرافية، وهي متوفرة في حالة السودان، مثل المياه والأراضي الزراعية والشواطئ البحرية والمعادن المختلفة.
توفر رأس المال، وفي حال الدول ذات الاقتصاديات الناشئة، فإن رأس المال المتاح لها هو الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يضخ الرساميل في اقتصادها لتأسيس البنية التحتية اللازمة للإنتاج والصناعة والخدمات، قبل أن يتمكن الاقتصاد من النمو وتسديد التزاماته تجاه المستثمر الأجنبي. ويقتضي ذلك وجود تشريعات وبيئة تشجع الاستثمار وتغريه وتحفزه. مع محاربة الفساد والمحسوبية والبيروقراطية التي تمارسها الأجهزة الحكومية.
الخصائص السكانية: وهي تختلف باختلاف البلدان، فبعضها كالصين توفرت لها الأيدي العاملة بأعداد مهولة مع الانضباط والالتزام العالي، وبعضها توفرت لها المهارة التقنية والعمالة المدربة كما في ألمانيا واليابان، وبعضها ارتفعت بمستوى تدريب وجودة كوادرها رغم قلة العدد كما في سنغافورة. ويجمع السودان بين العدد المعقول من السكان، حيث يغلب على هرمه السكاني وجود الشباب في سن العمل والإنتاج، وبين مستوى تعليمي متوسط تقل فيه الأمية عن ربع السكان.
الفرص الاقتصادية:
التوسع في الزراعة، خاصة القمح (لإحلال الوارد منه) والحبوب الزيتية (الفول والسمسم وعباد الشمس) والخضروات (التوم، البصل، الطماطم، البامية الخ) والأعلاف، والموز والليمون، وذلك بقصد سد حاجة الأسواق القريبة في الخليج وغيرها. تبلغ قيمة واردات الخليج من الأغذية حوالي 50 مليار دولار سنوياً، منها 10 مليار دولار لزيوت الطعام وحدها. وتقدر دراسة أعدها إتحاد أصحاب العمل بأن استثمارات بقيمة 400 مليون دولار في الزراعة والصناعات التحويلية، يمكن أن تأتي بعائد 10 مليار دولار سنويا في بضع سنوات.
تطوير مشروعات سياحية كبيرة ومتكاملة، تشمل شواطئ البحر الأحمر، ومناطق الآثار في الشمال (مروي، كرمة، البجراوية الخ) ومناطق المحميات الطبيعية (الدندر) والصحاري في وسط وشمال البلاد، وذلك لأن استثمارات قليلة في مجال السياحة يمكن أن تأتي بعائدات كبيرة من العملات الصعبة، وبسهولة واستمرارية، وهي من المجالات التي لبلادنا ميزات نسبية فيها لا تحتاج إلا لحسن الاستغلال.
تطوير صناعات تحويلية مرتبطة بإنتاجنا من المواد الخام، كصناعة زيوت الطعام، والمنتجات الجلدية، والملابس الجاهزة القطنية (تصدر بنقلاديش ما قيمته 45 مليار دولار من الملابس الجاهزة) والأثاثات الخشبية والمعدنية (لإحلال الوارد منها) وسكر القصب والصناعات الغذائية كالألبان و الأجبان والبسكويت والمكرونة والصلصة والعصائر. بجانب صناعات أخرى حيوية كالأدوية والأسمنت والبلاستيك والورق ومواد التغليف، والأسمدة والصابون والمنظفات. كل ذلك بمواصفات وجودة معدة للصادر والمنافسة في الأسواق خاصة دول الجوار والإقليم.
العمل على اجتذاب رؤوس أموال أجنبية في مختلف المشاريع والقطاعات الاستثمارية، مثل إنشاء مشروعات البنية التحتية بنظام البوت (الطرق والمطارات والموانئ والسكك الحديدية ومحطات الطاقة والعقارات والمدن المتكاملة) وفي مشروعات السياحة (كالفنادق والمنتجعات والشواطئ والقرى السياحية ومدن الملاهي والترفيه)، وفي مجال البنوك والتمويل، وفي مشروعات الخدمات الصحية والتعليمية، بما يشمل إنشاء معاهد تقنية وجامعات علمية، ومستشفيات عالية الجودة لتوطين العلاج واجتذاب السياحة العلاجية من دول الجوار. الاستثمار في التعليم العالي ذي الجودة هو استثمار مربح ليس فقط لتخريج كوادر مؤهلة وإنما أيضا لاجتذاب السياحة التعليمية والطلاب الأجانب. بلغ دخل بريطانيا من الطلاب الأجانب 54 مليار دولار في العام الماضي. وتقدر نفقات العلاج بالخارج للسودانيين بحوالي 500 مليون دولار سنويا، وإذا تم اجتذاب مواطني دول مثل جنوب السودان وتشاد وإريتريا وغيرها فيمكن للسودان بسهولة الحصول على 2-3 مليار دولار سنويا. وهناك مشروعات النقل كشركات الطيران وأساطيل النقل البري للبضائع والركاب، ومشروعات المناطق الحرة والمراكز اللوجستية مع ربطها بالسكك الحديد، وذلك لخدمة الدول المغلقة المجاورة مثل إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى. هذه المشروعات المختلفة تتم إعداد دراسات متكاملة لها، وتقديمها للمستثمرين خاصة في دول السعودية وقطر والكويت وتركيا والصين وروسيا، وحتى دول أوروبا وأمريكا وغيرها. وللصين تجربة استثمارية مشجعة مع بلادنا في مجال استخراج النفط، وتكريره، وخطوط الأنابيب، وغيرها.
التوسع في التدريب التقني والمهني بهدف إعداد الشباب بمؤهلات مطلوبة في سوق العمل العالمي، مع مراعاة إتقان اللغة الانقليزية ورفع مستوى التأهيل ليواكب المعايير العالمية، وذلك في مجالات الرعاية الصحية (خاصة التمريض والمهن الطبية المساعدة) وفي مجالات الكهرباء والبناء والآلات الثقيلة والطاقة المتجددة والحاسوب والذكاء الاصطناعي والويب (تصميم تطبيقات وصفحات الشبكة) وغيرها.
التركيز على مشروعات الشباب ومبادرات رواد الأعمال منهم والأعمال الصغيرة والمتوسطة (SME) وتوفير التمويل الأصغر، ذلك لأنها هي المحرك الرئيسي للاقتصاد حتى في الدول العظمى (حيث تشكل 99 في المية من الشركات في أمريكا ويعمل بها حوالي نصف القوى العاملة، وتشكل 90 في المية من الشركات في الصين، وتساهم بـ 70 في المية من الناتج القومي الاجمالي وتشغل 90 في المية من الأيدي العاملة) ولأنها تستوعب أعداداً كبيرة من السكان فتحقق هدفاً مزدوجاً هو تشغيل أكبر عدد من الأيدي العاملة، وترفع مستوى المعيشة، إضافة إلى مساهمتها المهمة في الإنتاج والصادر.