فيما ارى
عادل الباز
1
وقتها كانت ممالكُ على النيل تطوف عواصم أوروبا، وكنا في صحبة تلك الممالك نتنقّل معها من دولةٍ إلى أخرى. وبقدر ما كانت مشاهدُ الممالك وتاريخُها وإبداعُها الفنيّ المدهشة مجسدةً على جدران المتاحف العالمية ، كانت ساحاتُ الميادين تعرض جانبًا آخر من إبداع السودانيين؛ كان عبد القادر سالم يشعل تلك الميادين بإيقاعات المردوم والجرّاري، وكان الراقصون يتدافعون من كل حدبٍ وصوب وباختلاف جنسياتهم للرقص والفرح. وكان عبد القادر يرقص مع فرقته كالنحلة، فيُثير الضجيج في ساحات الرقص، ثم لا يلبث أن يتوقف ليشرح خصائص هذه الإيقاعات وطبيعتها وتاريخها، ثم يضيف ألحانًا وأغانيَ على إيقاع الدوكة والدليب وغيرها.
2
كان كردفانيَّ الهوى وسودانيَّ الهوية، بمتّسع جمال إيقاعات السودان وتنوّعها. هناك، في تلك الميادين والليالي المشتعلة بالإبداع، تعرّفتُ على الفنان والإنسان عبد القادر، وسبقت ذلك محبةٌ عميقة لكردفان وأهلها وفنانيها. في كردفان لي أهلٌ وأصدقاء وذكريات، إذ كنتُ أقضي أغلب إجازاتي بين الأبيض وسط رمالها وخريفها الزاهي، والدلنج بجمال جبالها وخضرتها.
تعرّفتُ باكرًا على فنون وإيقاعات كردفان، ويعود الفضل في ذلك لعمّي مدثر الريح السنهوري، مؤسس فرقة فنون كردفان. أتاحت لي هذه المعرفة، وشغفي بالأغنية الكردفانية، فرصةَ تعميق علاقتي بعبد القادر سالم، وكنت ألتقي به كثيرًا في بيت الثقافة أيام سمؤال خلف الله القريش، حياه الغمام ومتعه بالصحة والعافية.
3
ما دهشني في عبد القادر أنه، رغم انتمائه لكردفان، كان ذا معرفةٍ عميقة بإيقاعات الشمال، وهذا ما لا تجده في فناني الشمال الذين، في غالب تجاربهم، يكتفون بإيقاعاتهم ولا يوظفون إيقاعات كردفان ودارفور في موسيقاهم إلا قليلًا. وأذكر أنه في أيام “نمارق” كان الاستاذا الفنان بابكر سليمان المؤلف الموسيقي قد قدّم أنشودة أقبل على دربنا باصوات مجموعة نمارق الغنائية باستخدام إيقاع الجراري. وأذكر أن كثيرًا من الموسيقيين اندهشوا لاستخدام هذا الإيقاع، إذ لم يكن استخدامه دارجًا في الغناء الرسمي المعتمد في أغنية الوسط التي تمثلها وتحتكرها إذاعة أم درمان والجماعة بتاعين “جلست شوف ياحلاتن “ خرج اللحن بصوت عمر بانقا وأنور عبد الرحمن فازداد جمالًا، وتحولت الأنشودة إلى أيقونة خالدة في ذاكرة السودانيين إلى الآن.
الاستخدام الثاني، الذي مثّل تحوّلًا فنيًا، في مسيرة نانسي عجاج حين قدمت أغنية أندريا باستخدام إيقاع الهسيس.هذا الإيقاع، على عكس المردوم القوي أو الجراري السريع، ناعمٌ جدًا. يمتاز الإيقاع بالخفة، ويحاكي أصوات الرياح في الفراغات الواسعة، لذلك يُعد من أكثر الإيقاعات تعبيرًا عن بيئة كردفان.
كانت نانسي عجاج موفقة جدًا في اختيار هذا الإيقاع لأغنية من بيئة تشبه بيئتها بين كردفان ودارفور، ثم هو يشبه طبقات صوتها، ولذلك كانت أندريا محطةً مميزة في تجربتها الغنائية.
لا أذكر من فناني الوسط من استخدم تلك الإيقاعات في أغنية كاملة، رغم الإحساس الذي تشعر به بان استلاف جزء من تلك الإيقاعات في بعض الأغاني (مصطفى سيد أحمد / سيد خليفة). وأظن أن السبب يعود إلى أن الإيقاعات القادمة من غرب السودان، وخاصة الجراري، يكون أداؤها جماعيًا، بينما تميزت تجربة الأغنية الحديثة في السودان بالفردية. والله أعلم.
4
أذكر آخر مرة التقيتُ فيها بالأستاذ عبد القادر سالم كانت في تكريم الفنان محمد وردي في المسرح القومي بامدرمان . في تلك الليلة، التي لا تزال عالقة بذهني، غنّى فيها زيدان إبراهيم ( المستحيل)، كما غنى عبد القادر (غلطة). وكنت قد أشفقت عليه قبل أداء الفقرة، ولكن عبد القادر أدهشني إذ أشعل المسرح بصوته القوي وطلعاته العجيبة، مما جعل وردي وود الأمين يصعدان المسرح لتهنئة سالم بذلك الأداء الخرافي لأغنية من أصعب أغاني وردي.
ليلتها قلت له:
يا أستاذ، لماذا اخترت “غلطة”؟
فقال: (أكبر غلطة… تعبتني… وردي ده ياخي ما بتلحق).
5
والآن… ما هو الأثر الباقي والبصمة التي تركها عبد القادر سالم؟
قبل عبد القادر سالم، كانت إيقاعات كردفان وجبال النوبة تنحصر في رقعة جغرافية محددة، وكانت مآثرُ سالم أنه قاد مشروعًا فنيًا ؛ لم يكن ملحنًا ومغنيًا مبدعًا فحسب، بل ساهم في توطين تراث كردفان وغرب السودان عمومًا في الإطار الغنائي القومي. ثم هو من صُنّاع الذاكرة السودانية والوجدان المشترك، فمثّلت أغانيه جميعًا علامةً فارقة في حضوره وتأثيره الجماهيري.
عبد القادر سالم من أكثر الأصوات السودانية حضورًا في الساحة العالمية، فعروضه خارج السودان ساهمت في تعريف العالم بالموسيقى السودانية.
تميّزت تجربة عبد القادر الفنية ليس في تعريفه بإيقاعات كردفان الجميلة وصنع الوجدان المشترك فحسب، بل رسم بمقدراته الفائقة صورة الفنان الراوي للتراث؛ لم يكن مؤديًا للتراث فقط، بل دارسًا ومنقّبًا فيه.ترك الفنان عبد القادر سالم أثرًا باقيًا وبصمةً عميقة يمكن قراءتها بوصفها مشروعًا فنيًا–ثقافيًا–وطنيًا متكاملًا، لا مجرد مسيرة غنائية.
رحم الله عبد القادر بقدر ما أعطى لوطنه ولفنه، وأنزل شآبيب الرحمة على قبره.
سالم… كما عرفته: صوتٌ من ضوء الرمال…
