حسن سعيد المجمر
هبت نسايم العيد تودع ليالي رمضان الكريم وحملت معها روح أحد أهرامات الطنبور في الشمالية، والذي لم يقتصر جمهوره عليها بل تهافتت قلوب معظم السودانيين لسماع ألحانه الطروبة وصوته العذب الذي انسابت طبقاته في وجدان الناس باختلاف الجغرافيا واللغة واللون والعرق والدين.
وللعيد في ألحان صديق أحمد معان مؤثرة أبكت بل أدمت قلوب من ألقت بهم الحياة بعيدا في أصقاع الدنيا عن الأهل والحبيبة والنيل والتراب في زمان عز فيه التواصل فالرسالة عبر البريد تأخذ أشهراً حتى يتبخر عنها نفس الحبيب، أما المكالمات الهاتفية فقد كانت ترفاً بعيد المنال وإن توفر يستغرق الوقت والجهود في صفوف قد لا يسعف الطرف الأخر الصبر للرد، وحتى شريط الكاسيت الذي كانت الأسر تتحلق حوله للتعبير عن شوقهم للبعيد ببضع كلمات لم تكن كافية لتشفي غليل الشوق والحرمان من العناق، قبل أن يتبدل الحال وتضج الدنيا بأيسر تقنيات الاتصال التي ألغت لفهة الشوق وأهمية الصورة. وبقي طيف الذكرى يهيم بالقلوب ويزداد اشتعالا في كل عيد:
ﻃﻮﻟﺖ ﺷﺎﻳﻞ ﺍﻟﺬﻛﺮﻯ ﻓﻲ ﻋﻴﻨيا ﻟﻠﻌﻴـﺪ ﺍﻟﻤﻀـﻲ
ﻃـﻮﻟـﺖ ﺑﺤـﺴـﺐ ﻓــﻲ ﻧـﺠـﻮﻡ ﺍﻟﻠـﻴـﻞ
ﻭﺃﻗـــﺪﺭ ﻓـــﻲ ﻣـﺴـﺎﺣـﺎﺕ ﺍﻟـﻔـﻀـﺎ
ﻭﺃﻏﺼـﺐ ﻣﺸﺎﻋـﺮﻯ ﻋﻠـﻲ ﺍﻷﻟـﻢ ﻭﺃﺭﻭﺿـﺎ
ﻭﺍﺗﻤﻨﻲ ﻟﻮ ﻟﺤﻈﺎﺗﻨﺎ ﺩﻳﻚ ﺗﺴﻤﺢ ﻇﺮﻭﻓﻨـﺎ ﻧﻌﻮﺿـﺎ
ﻭﺗﺠﻤﻌﻨﻲ ﺑﺎﻟﺤﺴﻦ ﺍﻟﺮﻓﺾ ﺃﻓﻜﺎﺭﻱ ﻛﺎﻥ ﺑﻴﻌﺎﺭﺿﺎ
ﻳﻤﻜﻦ ﻗﺒﻞ ﻧﺘﺒﺎﺩﻝ ﺍﻟﺤﺐ ﺍﻟﺸﺮﻳـﻒ ﻳﻤﻜـﻦ ﺭﺿـﺎ
ﺗﻤـﻀـﻲ ﺍﻟﺴﻨـﻴـﻦ ﻭﺗﻤـﻀـﻲ ﺍﻟـﺸـﻬـﻮﺭ
ﻭﺍﺗﻤﻨﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﺗﻤـﺖ ﺍﻷﻳـﺎﻡ ﻭﺍﻧﺘﻬـﺖ ﺍﻟﺴﻨﻴـﻦ
كان قلبي فتش عن نصير
خفف عذابات الضمير
ومن قبل ما أصل المصير
الفيهو قلبي المحترق فكر كتير
كذلك عبر صديق أحمد ورفيق دربه الشاعر المرهف عبد الله محمد خير عن الأماني العظيمة للأم والمحبوبة لزيارة الخرطوم بلهفة وشوق للتمتع ببعض محاسن الحياة فيها والراحة والرقة التي تعيشها رفيقاتهن من النساء هناك:
الرسول يا ود عمتي
إن دُرتَ راحتي
إن دُر جمتي
رسل التسريح اللجي
بلالي متين يجي آآآيمة
نركب البيسابق الريح
نمشي في الخرطوم نستريح
الخدامة تسوي التبيخ
وكل جمعة نزور الضريح
بلالي متين يجي آآآيمة
…
قولوا لامي ماني جايي
كنا نشرب لبن السعايي
بقينا نشرب لبن الشرايي
الميي بالماسورة جايي
تبيخنا في الحلة أم غتايي
بلالي متين يجي آآآيمة
لقد عاشت نساء أرياف الشمالية حتى ما بعد الألفية الثانية بعقدين حياة تنعدم فيها أدنى مقومات المدنية حيث لا شبكة كهرباء قومية ولا اتصالات متيسرة ولا إمكانية لالتقاط شارة تلفزيون السودان بينما يعتبر من حظي بالتقاط صوت هنا أم دمان، الإذاعة القومية محظوظا للحد البعيد.
على الرغم من حرص سكان مروي والدبة ودنقلا وحلفا وأريافها على دفع الضرائب وخراج النخيل والفواكه، وضآلة اهتمام الدولة بتنفيذ مشاريع التنمية المستدامة الوطنية، لكنهم لم يستخدموا مصطلح التهميش أو يعلقوا مشكلاتهم على أعناق حكومة المركز فقد تمتعوا بثقافة العون الذاتي والتدافع من حر مالهم ومنتجاتهم للمساهمة في إقامة المدارس والمستشفيات ومحطات مياه الشرب النقية وتعبيد الطريق القومي شريان الشمال الذي وجدته الحكومة ممهداً لتكلمه بعد أن بلغت الطرق القومية حدود السودان شرقاً وغرباً وجنوباً.
لقد صدح صديق بألحان وصفت معاناة المهاجرين لتحسين معاش أهلهم المحرومين من التنمية الشاملة، الذين ينتظرون التغيير الإيجابي لتحقيق حلمهم في الحرية التي هي شراع الأمل وضمان نهضة الوطن وتحقيق السلام المستدام والعدالة والرفاه:
مشتهيك انا يا بـلــد
وليك راجع لا محالة
بعــدما حررت نفسك
من قيودك فى بسالة
بعدما طهرت ارضك
من نواميس العمالة
مشــتهيك انـا يا بـلد
نفـســى أرجــــــع ..
والفـح الحـرية شـالة
وألبس التوب المطرز بالعدالة
وأحمى للقيم العشقتك من خلاله
وما عــرفته اعيش بدونه
ومـا قــدرت أقــولا لا لا
رحل صديق أحمد وهو آخر أهرامات العقود الستة الماضية (إسحاق ومحمد كرم الله، والنعام آدم، ويسن عبد العظيم”، أبناء ريفي الدبة، أو المنطقة الجنوبية مركز مروي سابقاً، الذين شكلوا وجدان أجيال متعاقبة من أهل الشمال ومحبي فن الطمبور من عموم أهل السودان. ولهم جميعا تغني بالقيم الفاضلة التي تميزت بها الأسر والمجتمعات المحلية وعلى المستوى القومي.
كل من سمع أغنياته “حبل الصبر”، “يايابا”، “كيفن أصبر قليبي”، مشتهيك يابلد”، “مشاويرك عديلة”، “نار عويش”، “يا زمان”، وغيرها وجد في كلماته نفسه، بل أجبرته ألحان صديق الطروبة على ترديدها…
فقد أسهم في تعريف السودانيين بالشعراء المبدعين من أبناء تلك النجوع البعيدة، وكيف أنهم عبروا بصدق عن جوانب حياتهم التي قدر لها أن تصلهم عبر الطنبور.
بالغ التعازي لعشيرته في أرقي شرق الدبة، ولأحبته وأصدقائه داخل وخارج السودان. إنا لله وإنا إليه راجعون….