تقرير – عزمي عبد الرازق
في مطلع أكتوبر 2021 كانت ساحة القصر الرئاسي وسط الخرطوم تعج بالمعتصمين، في مشاهد ثورية لافتة، وتلوح مضارب الخيام، كأنه المبيت على مُنى.
حينها صعد رئيس مسار الوسط التوم هجو المنصة المنتصبة هنالك، وعقد أصابعه الأربعة، وبدا كما لو أنه يصحح هتافه السابق “الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع” ليضيف لها عبارة “من حمدوك شخصياً”، فيما أوضح حاكم إقليم دارفور مناوي أنهم يفوضون الوثيقة الدستورية المجني عليها، لحسم الصراع.
القرارات التصحيحية
بعد أيام قليلة فقط، وتحديداً في 25 أكتوبر أطل رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان عبر شاشة التلفزيون القومي وأعلن للشعب السوداني فض الشراكة بينهم وقوى الحرية والتغيير ، مجموعة المجلس المركزي، وحل مجلسي السيادة والوزراء، وإعفاء كافة الولاة ووكلاء الوزارات، وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين، فيما كان رئيس الوزراء عبد الله حمدوك شريكاً في تلك المفاصلة، من وراء حجاب، لأنه ظهر بعد ذلك، في نوفمبر من ذات العام، برفقة أعضاء المكون العسكري، ووقّع على بيان سياسي أمام كاميرات الإعلام وتحت أنظار وبحضور المجتمع الدبلوماسي في الخرطوم ، ثمّ استقر به المقام مرة أخرى في ذات مكتبه المطل على شارع النيل بمجلس الوزراء، وانخرط بعدها في سيل من اللقاءات الصحفية، منافحاً عن وقع خطوته الجديدة دون حاضنة حزبية، ليدحض الدعاية التي تتحدث عن انقلاب عسكري على الوثيقة الدستورية، والتي لا تزال حاكمة، إلى اليوم، والتي انقسم الناس حولها إلى فريقين، فريق يرى أن ما حدث كان انقلاباُ عسكرياً، بدليل تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، وفريق آخر يرى أنها محاولة تصحيحية كانت مطلوبة بشدة، لأن القوى المدنية التي استحوذت على السلطة، لم تكن منتخبة، ولم يفوضها الشعب السوداني ولم تنل رضا كل القوى السياسية السودانية.
عاصفة على الحاضنة السياسية
مرت اليوم 3 أعوام على تلك الأحداث العاصفة، وبدأ الجدل حولها يخفت شيئًا فشيئًا، أو بالأحرى غطت عليها أحداث أكثر أهمية وخطورة، منها تمرد قوات الدعم السريع، بدعم وتحريض مباشر من قوى الحرية والتغيير، وفقاً لاتهامات رسمية، وهى التي تتخذ حاليًا من اسم تنسيقة تقدم رداءاً جديداً، لدرجة أنها أصبحت فيها متهمة بأنها الحاضنة السياسية لقوات آل دقلو الإرهابية، ويحكم العلاقة بينها اتفاقين، الأول الاتفاق الإطاري الذي تم التوقيع عليه في الخامس من ديسمبر 2022، والآخر هو إعلان أديس أبابا، والذي تم التوقيع عليه في يناير من العام الجاري، وهذا بالضرورة باعد المسافة بين القوات المسلحة السودانية وتنسيقية تقدم، التي تلاحق قادتها مذكرات توقيف، بمن فيهم حمدوك نفسه، المتهم بالتورط في جرائم حـرب، وفقًا لبيان صدر من النيابة العامة.
في بيان لها (الجمعة) اتهمت تنسيقية تقدم ما أسمته بانقلاب أكتوبر بأنه يُعد الخطوة الأولى لحرب 15 أبريل، فضلًا على أن ذات التنسيقية تتبنى سردية داعمي المليشيا حول مَن أطلق الرصاصة الأولى، لكن المثير والجديد في الأمر هو أن قائد مليشيا الدعم السريع نفسه “حميدتي” و في آخر حديث له قال إن الاتفاق الإطاري كان هو السبب في اندلاع الحرب!
هذا وقد أضاف بيان تنسيقية تقدم رفض محاولات ما وصفه بمجموعة بورتسودان “اكتساب الشرعية عبر بوابة الحرب بعد فشل الانقلاب في تحقيق غاية المشاركين”، وجددت “تقدم” الدعوة لمن أسمتهم “قوى الثورة” للوحدة حول أهدافهم وغاياتهم، والعمل الجاد لإنهاء الحرب ومعالجة آثارها، إلى جانب تأسيس مسار انتقال مدني وديمقراطي مستدام.
لعبة الكرسي المميتة
من المهم الإشارة إلى أنه كان ثمة شبه إجماع من قادة الحكومة الانتقالية السودانية – في شقيها المدني والعسكري – بتردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية معاً.
جميعهم أقروا بذلك الواقع الكارثي، وظلوا يرددون بصريح العبارة وأحياناً بطريقة ضمنية “نعم فشلنا ولكننا مستمرون” كما لو أن الاستمرار مُكافئ للفشل! أو كما يتندر الأطباء بتلك العبارة “العملية ناجحة ولكن المريض توفي”. أما الجماهير والشعارات فقد كانت، وفقاً لمن عارضوا تلك الشراكة، مجرد أدوات مُساعدة للصعود، تسند ظهر الحاكم وتعود إلى البيوت لتنام وتفقس، والنتيجة كالعادة نظامٌ فاشل فاحت منه رائحة الفساد وتصفية الخصومات السياسية، وأكثر ما أفرزه مناوبات الشركاء المتشاكسين، اختلافهم مشكلة وتوافقهم كارثة، لأنه يفضي بأي حال إلى لعبة الكراسي المميتة.
أخطر التحديات التي واجهت تلك الشراكة هى محاولات خلق توازن مصالح بين العساكر وقوى الحرية والتغيير، حيث كانت تحكمهما صيغة أشبه بالزواج الإجباري نتيجة للحمل خارج إطار العلاقة الشرعية، إلى جانب المواصلة في الحكم دون شرعية، كما تم أيضًا خرق الوثيقة الدستورية، التي تم تعديلها أكثر من مرة بحجة استحقاقات السلام، وتم تمكين الدعم السريع من مفاصل الدولة، وقضوا على احتمالية قيام الانتخابات.
الكوادر تقرر كل شيء
وفي غياب المجالس التشريعية التي تعبر عن جماع الأمة، وحرمان وسائل الإعلام من المعلومات الحقيقية، والتضييق عليها أحياناً، ورمي المخالفين السياسيين في السجون دون مُحاكمات، أو تجميد حساباتهم في البنوك ومصادرة بيوتهم، عبر لجان غير مختصة، بدليل أن القضاء نقض قراراتها بعد ذاك، أصبحت الكوادر تقرر كل شيء على قول ستالين، وأي معارض لذلك النظام الشمولي الجديد، يتم نعته بمعاداة الثورة حتى يصمت للأبد، وهذا بالضبط كما ينصح الطهاة المنحرفون صناع الشواء بإضافة الشطة والتوابل والفلفل الأسود على اللحم الفاسد كي لا يشعر أحد بما فيه من عفن، فالعدوى انتقلت لممارسات الحكومة الانتقالية نفسها، فساد تحت رائحة التوابل الثورية.
لقد فشلنا فشلاً ذريعاً
وبينما كان رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يكرر في معظم خطاباته عبارات مثل سنعبر وسننتصر دون أن يكون العبور حقيقياً، مراهناً على وعود المجتمع الدولي ودولارات المانحين التي لم تأت، فقد ظل نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو هو الآخر يردد عبارات على شاكلة “نحن صبرنا كتير، الحكاية دي كده ما بتمشي، لقد فشلنا فشلاً ذريعاً” كأن الفشل كلمة جيدة يتباهى بها، ومتى وجد زيارة خارجية تهندم لها بكامل الصلاحيات السيادية، أو شعر بموجة تغيير واحتجاجات هب لقمعها، وهو يتمدد كل يوم، بمساعدة الشريك المدني، حتى كاد أن يبتلع كل مؤسسات الدولة، وفي الأخير تمرد عليها.
خلال الأشهر الأولى من عمر الانتقال جرت محاولة لتعديل التشريعات التي تمس المجتمع والعقيدة، إلى جانب التطبيع مع إسرائيل، مما أثار عليهم غضب الشارع ورجال الدين، فيما كانت التدخلات الدولية في الشأن السوداني مسألة ظاهرة، وتولت البعثات الأجنبية التأثير في القرار السياسي، وعلى رأسها بالطبع بعثة يونتامس برئاسة فلوكر بيرتس.
شهادة وفاة
انتظر القائد العام للجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان نحو ثلاثة أعوام ليكتب شهادة وفاة الشراكة الثنائية بين الجيش وقوى الحرية والتغيير، وانتظر نحو عشرة أشهر ليعلن سحب الجيش من الميدان السياسي، ودعوة القوى الوطنية لتكوين حكومة تكنوقراط مستقلة يعقبها حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة، وفقًا للبيان المقتضب الذي أذاعه البرهان للشعب السوداني، لكن قراراته تلك لم تر النور، بما فيها تكوين حكومة كفاءات مستقلة غير حزبية، فضلًا على ما أصاب تلك الشراكة من أزمات، وكان العديد من المراقبين يتوقعون عدم استمراريتها، خصوصًا وأن كل طرف كان يتربص بالأخر، حتى داخل المكون العسكري، حيث أعلن حميدتي بعدها أن الأمور ذهبت على غير ما سعى له، فأعلن ندمه على مشاركته في “انقلاب 25 أكتوبر”، حد وصفه، والأهم من ذلك أن المكون العسكري تجاهل سوابق الانتقال السوداني، والتي كان الجيش يدير فيها الفترة الانتقالية لمدة لا تزيد من العام، وتسليم السلطة إلى حكومة مُنتخبة، على ضو تجربة المشير عبد الرحمن سوار الذهب إبّان ثورة أبريل 1985 التي أطاحت بنظام جعفر نميري، وكذلك ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت بالجنرال إبراهيم عبود.
نقلا عن موقع “المحقق” الإخباري