دكتور الطيب حاج عطية نموذج المثقف الذي يحترم التنوع ويقدس الحوار السلمي

د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

ذُكر أن دريد بن الصمة لما بلغه وفاة أخيه عبدالله، رثاه بقصيدة طويلة لا زالت مقاطعها تسير بها الركبان، فقال في بعض أبياتها:
فإن يك عبد الله خلى مكانه
فلم يك وقافاً ولا طائش اليد
ولا برماً إذا الرياح تناوحت
برطب العضاة والهشيم المعضد
صبور على وقع المصائب حافظ
من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وطيب نفسي أنني لم أقل له كذبت
ولم أبخل بما ملكت يدي

وهو هنا يشير إلى مكارم الأخلاق التي طبعت شخصية أخيه، فلم يكن ليتوقف في موضع السير للمكرمات، وكان يحدد أهدافه بدقة ويصوب نحوها، ويلتزم الصبر على النوائب الدهر، وحفظ نفسه عما يشين من الأفعال، والصدق في القول حتى أنه لا يقال له كذبت. وأخال المكرمات التي ذكرها دريد، كأنما قيلت في فقيدنا الراحل د.الطيب حاج عطية. إلا أنها عند د. الطيب معطونة في مزيج من الطيبة والسلامة الداخلية. وإن صح ما قالت به العرب قديماً (لكل امرء من اسمه نصيب)، وما سارت عليه الدراسات الحديثة التي أثبتت تأثير الاسم على شخصية صاحبه، فإن دكتور الطيب قد أخذ من اسمه بسهم وافر. فكانت الطيبة كما يعرفها غمار السودانيين في معناها الشايع هي أكثر ما يميزه. تأتيه كيفما اتفق فلا تجده إلا صدراً مفتوحاً وقلباً نقياً واستعداد لتقديم الخدمة المطلوبة. وتراه في ما يكتب ويقول داعية لاحترام الآخر وللحوار السلمي ونبذ العنف.

النشأة والتنوع
يمثل د. الطيب نموذجاً للمثقف الذي نشأ في بيئة متنوعة متسامحة وثرة، فتشرب قيمها وارتبط بها تكوينه النفسي والفكري، فقد هاجر أسلافه من أقصى شمال السودان إلى وسطه، واستوطنوا مدينة الدويم، حيث عمل والده سائقاً في معدية المدينة التي تربط المدينة بالضفة الشرقية من النيل الأبيض. وكل الذين كانوا يترددون على مدينة الدويم في أواسط القرن الماضي يعرفون العم حاج عطية. وكانت الدويم بدورها نموذجاً للمدن الجديدة الناشئة التي بدأت تتشكل في فترة الاستقرار الذي شهدته البلاد في أعقاب انتهاء الدولة المهدية وقيام الحكم الاستعماري. فقد وفدت إليها مختلف قبائل السودان وأطيافه بحثاً عن فرص عمل في مجتمع شبه حضري، فالتقت وخلقت نسيجاً جديداً، كما وحد بينها الرغبة في العيش الكريم. فقد استوطنتها أعداد مقدرة من قبيلة الجعافرة التي ترجع أصولها إلى صعيد مصر، وامتهن غالبية أهلها مهنة الزراعة في نطاق يحيط بالمدينة، ووفد إليها من غرب القارة الأفريقية قبائل زنجية عاش غالبيتها في حيهم (روتو) في الطرف الغربي من المدينة لكن صلتهم كانت ممتدة بسوقها الكبير. وجاءتها جماعات وأفراد من أقاليم السودان المختلفة الأخرى من الشمال ومن الغرب ومن الوسط. وفي هذا المحيط نشأ د. الطيب وسط خليط متمازج من الأعراق والأعراف والعادات، ومتناغم في انصهاره. وأعرف أن الحي الذي ترعرع فيه وهو الحي الثامن من المدينة، يمثل وحده نموذجاً للمدينة كلها، وللسودان الكبير بأديانه وقبائله وعاداته. ولابد أن هذه البيئة التي نشأ فيها من أقوى العناصر التي ساهمت في تكوينه النفسي والفكري طوال حياته.

ولد د. الطيب في العام 1949، ودرس مراحله الأولية في مدينة الدويم متنقلاً من مدرسة بخت الرضا ومدرسة الدويم الريفية. تم انتقل إلى مدرسة خور طقت الثانوية. وكانت هذه المؤسسات التعليمية نموذجاً لتلاقح الثقافات وإدارة الحوار بين مختلف أطياف السودانيين. وبالطبع فقد تعرف د. الطيب في هذه المدارس على طلاب من مختلف أنحاء السودان، وخلق صلات وحواراً عريضاً معهم. وكانت مدرسة خور طقت وجه الخصوص أحد أضلاع مثلث المدارس الثانوية المتميزة في السودان التي يفد إليها الطلاب من شتى الأقاليم، وذلك إلى جانب مدرسة حنتوب ومدرسة وادي سيدنا، ولابد أنه أنشد مع بقية زملائه نشيد وشعار خور طقت وتشرب به:
أنا عالم تنضم تحت لوائه كل البنود
لا أعرف الحقد المرير أسوقه فوق الوجود
من حاضري وفتوتي من وجه ماضي التليد
سيقودني قلبي الفتي لابتني الأمل الجديد

شغف د. الطيب بالمعرفة والتحصيل العلمي أيما شغف، فالناظر لسيرته الذاتية يلحظ العدد الكبير من المؤهلات العلمية والشهادات التي نالها وأنفق فيها أوقات مقدرة من عمره، بدءاً من بكالوريوس القانون والدبلوم العالي في القانون من جامعة الخرطوم، ومروراً بماجستير الإعلام من جامعة سيراكيوز بالولايات المتحدة، ودكتوراة الإعلام من جامعة السوربون بفرنسا ودبلوم الدعاية السياسية من معهد الدعاية بموسكو ودبلوم الإعلام الدولي من جامعة جنيف بسويسرا وزمالة جامعة أوكلاهوما. وترك هذا الكم المتنوع والهائل من المعارف التي نالها في القانون والإعلام والسياسة تأثيراً على تفكيره وتحليله العميقين للموضوعات التي اهتم بها. فكانت أطروحاته التي يقدمها في المنابر المختلفة مزيجاً مميزاً من هذه العلوم. خاصة مفاهيمه حول التنوع الاجتماعي والإصلاح السياسي.

وقد كتب الله لي الشرف أن أتتلمذ على يديه، وذلك حين أعلنت جامعة الخرطوم عن برنامج لدراسة الماجستير في الدراسات الدبلوماسية، وكنت ضمن الدفعة الأولى التي درست هذا البرنامج. وقد احتوت مقرراته على مادة الإعلام الدولي التي تولى تدريسها د. الطيب. فكانت طريقته في التدريس مميزة، فلم يكن محاضراً بالمعني التقليدي للمحاضر، يعد مادة علمية يلقيها على الطلاب ويحاسبهم على استيعابها، وإنما يثير مفاهيم وأبعاداً متعددة مرتبطة بالموضوع الذي يود أن يعرف طلابه به، ثم يخلق جواً معرفياً عاماً في القاعة يدفع الطلاب دفعاً إلى البحث عن جوانب معارف جديدة في الموضوع وارتياد آفاق أخرى في الفهم والاستقصاء. وهو في ذلك أشبه بالشيخ الذي يفترع رؤوس مواضيع للنقاش ثم يتداولها مع طلابه ويدعهم لاستكمال ما بدأوه في قاعات الدرس. وكان جمعه بين الجانب الأكاديمي والتجربة العمليه ظاهراً في متانة مفاهيمه النظرية وقوة الاستدلال عليها، ووضوح رؤاه حين يطرحها على طلابه.
التنوع والحوار كلمات مفتاحية في حياة د. الطيب.

إذا أمكن لشخص أن يجد عبارة دارت عليها حياة د. الطيب فهي (التنوع والحوار)، فقد شغل نفسه بالتذكير بالتنوع الذي فطر الله الناس عليه والدعوة للحوار السلمي، وظل يجسد كل ما اكتسبه من معارف وكل ما حظي به من علم لتحقيق هذا الهدف. ولم يكن يغشى منتدى أو ملتقى فكري إلا وكان التناغم السلمي هو الوتر الذي يضرب عليه.

وفي سياق تحديد نظرته لإدارة التنوع في السودان بين د. الطيب موقفه من القبلية باعتبارها باباً أساسياً في موضوعات التنوع، فذكر في منتدى أقامته طيبة برس تحت عنوان (القبلية والطائفية والدولة المدنية) أنه ليس مع القبلية ولا ضدها، وإنها كالماء يمكن أن تغرق بها مكاناً أو تسقى بها زرعاً، والنظرة المجتمعية لها هي التي تحدد سياقها كداعم للتطور والنهوض، أو أداة سلبية تؤدي للهبوط إلى درك سيء. وأن الأصل أن يوجد نظام لقسمة الموارد ونظام للأمن ونظام للتعايش، وتعد القبيلة بنية من بنى هذا التنظيم. فهو يؤكد على القبلية كأداة تؤدى غرضها من خلال اليد التي تحركها والنظرة التي تحصل عليها في السياق الاجتماعي والسياسي. فتأثيرها الايجابي أو السلبي لا يأتي من داخلها وإنما من خارجها. وهو بهذا المعنى لا يسير في ركاب الذين يدعون لاستئصال القبلية تماماً، وإنما يعترف لها بموقعها في السياق الاجتماعي، ويدعو للتعامل الإيجابي بشأنها.

كان د. الطيب يركز على أن التنوع هو الأصل في المجتمعات وأن ليس هناك مجتمع متجانس بصورة تامة، وذلك لاختلاف الأفراد فيما بينهم، فالتجانس الكامل في بعض المجتمعات أكذوبة كبرى لا وجود لها، وأن الحياة اليومية سلسلة من التنازلات التي يقدمها الأفراد والجماعات من أجل التعايش السلمي. وقد لخص مفهومه لحل مشكلة التعايش في ندوة قدمها بعنوان (مستقبل التعايش السلمي في السودان) فقال نحن بتنازلاتنا وبالنظام الذي نختطه نعيش في سلام، وغير ذلك يصبح الاختلاف مشكلة عندما يتحول إلى صراع، ويصبح الصراع مشكلة عندما يتحول إلى نزاع، ويصبح النزاع مشكلة كبرى عندما يدخل فيه عامل العنف. ولابد من عمل الترتيبات التي تجعل من الاختلاف وسيلة إيجابية لحفظ بنية السلام الاجتماعي. ولخص في هذه الندوة طريق إدارة التنوع فقال: (أنه لاقوة إلا للوفاق ولا قوة إلا للسلمية ولا قوة إلا للتراضي ولخدمة الناس وتلبية احتياجاتهم بحيث يعيشوا سعداء في مجتمعاتهم ويكونوا شركاء حقيقيين).

يحتج د. الطيب كثيراً على التمييز بين الثقافات على أساس أن بعضها بدائي وبعضها غالب. ويرى أنه لا تخلو جماعة بشرية من الثقافة، وأن مثل هذا التمييز مستل من الآيدلوجيا الاستعمارية ورؤيتها للمجتمعات والعالم، وهي من توابع اختراق أنساقنا الفكرية والثقافية.
ولتأكيد هذه النظرة قطع في ورقة له بعنوان: خلفية تاريخية لعملية البناء الدستوري في السودان، أن من أسباب فشل التجارب الدستورية السابقة في السودان أنها لم تستمد شرعيتها من قوميتها وإنما كانت معبرة عن النخب التي وضعتها والنظم السياسية التي تبنتها ومن ثم ذهبت هذه التجارب مع أصحابها سواء كانت أحزاب بعينها أو نظم عسكرية أو ثورية.

حملة مناهضة الحرب
شارك د. الطيب في الحملة التي دشنها مركز أبحاث السلام بجامعة الخرطوم في سبتمبر 2015 لمناهضة الحرب في مناطق الصراع المسلح ودعت جميع الأطراف المتصارعة حكومة ومعارضة إلى وقف فوري للحرب، وقد قدم ورقة أشار فيها إلى أن اتفاقية السلام الشامل لم تستطع أن توقف العنف، وانفتح في جبهات جديدة في البلاد. وأن عدم قبول الأطراف بالحوار الجاد سيفتح الباب إلى ما هو أصعب.

ومثل هذه المساهمات المنفعلة بالشأن الوطني والداعية لوقف الحرب وعلاج المشكلة السياسية عن طريق الحل السلمي لا تحصى في حياة د. الطيب. فقد شارك في عشرات الندوات وقدم مثلها من الأوراق الذي تصب في ذات الاتجاه. والتقى من موقعه كأكاديمي وناشط وطني بالفاعلين السياسين في الشأن الوطني في العديد من المنابر وطرح رؤاه للوصول إلى مخرج سلمي لمشكلات البلاد.

المبادرة القومية للسلام والإصلاح
برزت شخصية د. الطيب في آخر مساهماته السياسية، وهي صياغته ضمن إثنين وخمسين من الأكاديميين والسياسيين والشخصيات القومية في مارس 2016 مبادرة للإصلاح السياسي في السودان تم تقديمها إلى رئيس الجمهورية، بعنوان (المبادرة القومية للسلام والإصلاح)، والذين يعرفون د. الطيب واطلعوا على المبادرة يدركون أن المبادرة كأنما صاغها د. الطيب فهي تعبر عن رؤيته غير العنيفة دائماً ومنهجه في التحول السياسي السلمي. فقد اقترحت فترة انتقالية تتولاها حكومة مهام وطنية تتشكل من ذوي الكفاءة والخبرة والأمانة لتنفيذ مخرج للبلاد من الأزمات التي تواجهها، على أن تتوفر لها المقومات الأساسية لتعزيز إنجاح المرحلة الانتقالية وذلك بإتاحة الحريات الأساسية العامة وتعزيز القبول المتبادل بين الأطراف الوطنية. وحددت المبادرة عدداً من الشروط لتحقيق التحول المطلوب.
ورغم أن المبادرة لم يكتب لها أن تسير إلى الأمام في حياة الفقيد د. الطيب إلا أنها يمكن استلهام مبادئها في حل المشكلة السياسية، وتحويلها إلى مناهج واقعية للتحول السياسي، بما يجنب البلاد مخاطر وويلات الصراع العنيف.

د. الطيب في موقع جامعة الخرطوم الالكتروني
رغم الضخامة التي يتمتع بها اسم الدكتور الطيب. والوزن الأكاديمي الثقيل والمساهمة المجتمعية الكبيرة، والتكريم الذي حظي به من جامعة الخرطوم اعترافاً بدوره الفاعل وانجازاته المشهودة إلا أن من يرجع إلى سيرته الذاتية في الموقع الرسمي لمعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم لا يعثر إلا على بضع أسطر لا تكاد تشفي الغليل، فلا يكاد يوجد توثيق للأبحاث التي كتبها وساهم بها في مؤتمرات داخلية أو على المستوى الدولي ولا إلى الكتب التي ألفها سوى ورقة بحثية يتيمة بعنوان (Evidence Generation in Developing Countries: The Case of Sudan) كما لا يوجد سجل بالإنجازات التي حققها على الصعيد الوطني كأكاديمي متميز أو ناشط مجتمعي. وكان يجدر بمعهد أبحاث السلام أن يوثق لهذه السيرة المتميزة، خاصة أن الفقيد تقلد عمادة المعهد في الفترة بين 2004 إلى 2009، وذلك من باب حفظ الفضل لأصحاب الفضل، والتوثيق لمساهمات الجامعة التي كان د. الطيب استاذاً بها لعدة عقود من الزمان.

رحم الله الدكتور الطيب حاج عطية بقدر ما قدم لهذا الوطن وأحسن متقبله ومثواه.

 

Exit mobile version