حيوان أجييب .. !

إبراهيم احمد الحسن
(1)
عندما لم تك في السودان قطرة من بترول يتم استخلاصها من آبار النفط فيه ، وعندما كان الوقود في رحم الإستكشاف كانت تنتشر في السودان محطات الوقود العالمية شل ، موبيل ، اجيب وتوتال وكان لكل واحدة شعارها ، دولها التي اتت منها ، وزيائنها ووقودها بدرجات استخلاصه المتعددة وكفاءته والعاملين فيها.
(2)
محطة وقود اجيب كان شعارها ذياك الحيوان العجيب ، والذي كان اساتذة المدارس الابتدائية لا يتورعون في إلصاق وصفه مع من يأتي بإجابة غريبة عن سؤال سهل ( عامل زي حيوان اجييب ) .
(3)
حيوان اجييب الذي كثيراً ما وقفنا عنده نتامل فيه ونستعجب ،فهو لم يك قطعاً حيوان كبقية الحيوانات التي درسناها أحرف أبجدية في المرحلة الابتدائية: آ أسد ، مروراً ب دال دجاجة ، بخاء خروف وليس انتهاء بزين زرافة ، حيوان اجيب كان يبدو ككلب ذو متن طويل له ستة أرجل ويخرج اللهب من فيه . كان أشبه بمقطورة طويلة تحملها اطارات ستة . وأرجل حيوان اجيب الستة تذكرني بطرفة حكاها عمنا (هريبي) عن اصدقائه الذين عادوا من السوق يحملون معهم دجاجة حية دفعوا بها الي جارتهم لتعد لهم وجبة شهية للعشاء ، تفننت الجارة العزيزة وتفانت في اعداد وجبة من الدجاج المحمر وأحضرتها إلي جيرانها وكانوا قد قطعوا شوطاً طويلاً في تناول عصير البلح الدكاي ، وما أن قام أحدهم برفع الغطاء عن صينية وجبة الدجاج حتى صاح ( يبدو ان جارتنا هذه قد أكلت رجلين من أرجل الدجاجة واحضرت لنا دجاجة برجلين فقط ) وعندما صححه رفيقه ان للدجاجة اصلاً رجلين فقط وليس اربع لم يقتنع من لعب عصير البلح برأسه . إحتدم النقاش وقد تمركز في ما إذا كان للدجاجة ( كراعين ) اثنتين فقط ام أربع . ولما كان صاحب نظرية الدجاجة ذات الأربع أرجل رجل صعب المراس وحجته قوية وحدة طبعه كانت حاضرة ، إتفق المتحلقين حول جلسة عصير البلح علي محاسبة الجارة علي عدم أمانتها (وأكلها) (لكراعبن) من ارجل الدجاجة الأربع . عند صباح اليوم التالي وهم في طريقهم للسوق مروا علي جارتهم وما أن فتحت الباب حتى رأوا في الحوش مجموعة من الدجاج ( تلقط الحب وتجري وهي فرحانة ) وكلٍ من الدجاج الذي (كأن عيونه خرزٌ وله في الشمس ألوان ) بكراعين اثنتين فقط . فإلتفت الثاني للأول قائلاً : الم أقل لك ان للدجاج كراعين وليس اربعة ولم تصدقني . كل ذلك والمرأة تقف عند سدة الباب تتلفت ولا تفهم شيئاً وعندها قال الاول بعفوية شديدة : والله نحن جئنا لنعتذر اليك فالجدادة لها رجلين اثنتين وليس اربعة . التفتت المرة لترى وسط دجاجها ( ديكها الذي له ريش جميل الصوت رنان ) ثم إنتقلت ببصرها الي (الديك ) الذي يقف أمامها ، صاحب نظرية ارجل الدجاجة الأربع ، إبتسمت في وجهه ثم أغلقت الباب.
(4)
اجيب هي اختصار ( للشركة الإيطالية العامة للنفط) وهي شركة إيطالية تم تأسيسها في العام 1926 ، اما توتال فهي شركة توتال للبترول هي الآن شركة توتال إنرجيز (TotalEnergies)، وهي مجموعة طاقة فرنسية متكاملة تأسست في العام 1924. تعمل في كامل سلسلة النفط والغاز من الإستكشاف والإنتاج إلى التكرير والتسويق، بالإضافة إلى قطاعات الغاز والطاقات الجديدة والمواد الكيميائية. تعد توتال إنرجيز من أكبر شركات النفط والغاز في العالم .
أما موبيل فهي شركة أمريكية تأسست في 1892 إندمجت لاحقاً مع شركة اكسون وإن كان قد إحتفظت بعلامتها التجارية موبيل وما زالت تعمل بها في محطات توزيع الوقود ..
وشل هي شركة بريطانية هولندية ( رويال دوتش شل ) فقد تأسست في العام 1907. شعار اجييب :
من قام بتصميمه هو الفنان النحات الإيطالي الأشهر في عصره لويجي بروغيني وقد أُعتبر الشعار الذي يُمثّل كلبًا ذو ستة أرجل توليفًا بصريًا يمثل القوة والطاقة والتفاؤل !!
(5)
الشركات الأربعة ( شل ، اجييب ، موبيل ، توتال ) كانت من ضمن الشركات الكبرى التي سيطرت علي صناعة النفط العالمية منذ منتصف عقد الأربعينات وحتى عقد السبعينات. وقد كانت للشركات الأربعة محطات لتوزيع الوقود تحمل أسماءها في السودان ، وهكذا كانت محطات توزيع الوقود الإيطالية والفرنسية والأمريكية والبريطانية الهولندية تعمل في السودان بكفاءة واقتدار حتى عقد السبعينات .
(6)
في عقد السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كانت من المناظر المألوفة في بعض مدن السودان أن ترى عربات صغيرة تجرها الخيول وعلي ظهرها صهاريج صغيرة بها عبوات من الجاز الابيض ، يقومون بتوزيعه علي الدكاكين الصغيرة في المناطق الطرفية التي لم تدخلها الكهرباء ليباع للسكان لاستخدامه في لمبات الاضاءة او مواقد الطبخ التي تعمل بالجاز الابيض إضافة الي (الرتائن ) وهي اللمبات الكبيرة التي تستخدم في المناسبات او في المتاجر والمحال لتوفير الاضاءة بل ان بعض الثلاجات كانت هي الأخرى تعمل بالجاز الأبيض .
(7)
كانت محطة وقود اجييب في مدينة الأبيض علامة فارقة ،ومحطة مهمة ليس بشعارها الغريب وحده وانما لان من ضمن ملحقات المحطة كان هناك مطعم يبيع الفول وكان زبائنه يصطفون للفوز بوجبة هنية من فول اجييب وتمتد خدمات المطعم إبتداءً من الإفطار وحتى العشاء . وكنا من رواد هذا المطعم في طريق العودة من سينماء عروس الرمال الي البيت .
(8)
فول اجييب كان ما يميزه طعم مختلف تتذوق فيه جبنة الدويم وشمار ابوحمد ، ملح بورتسودان وزيت معاصر الابيض وام روابة كانت تلك خلطة سحرية لفول اتوا به رأساً من السليت ريفي دنقلا . وصحن جانبي من سلطة طازجة مقوماتها طماطم من نواحي الرهد وعجور من أرياف كوستي ، جرجير من جروف فولة (قرين طقو ) وسط الأبيض ، وشرائح بصل ابيض من كسلا وبصل احمر من شندي وليمون من جناين البانجديد وبارا الذي تغنى له الفنان العالمي السوداني عبدالقادر سالم ( ليمون بارا ) ،ثم صحن من جبنة مضفرة طازجة اتوا بها للتو من كازقيل ،ثم حلقات من الخبز اتوا به قمحاً من الجزيرة والمناقل ، طحنوه في مدني والخرطوم ثم صنعوا منه رغبفاً حول الفول ويزين كل ذلك شطة ( دنقابة) حمراء من سوق الشطة تصدرها دارفور للأبيض .
( 9 )
لم يك ذلك مجرد صحن فول بتحلق حوله أهل وزملاء وأصدقاء وجيران اتوا من جغرافيا السودان المتنوعة وإجتمعوا حول صحن فول . كان ذياك الصحن يمثل حكاية هوية ، تأريخ ، عنوان وهوى .
(10)
والآن ! كم حيوان بأرجل ستة يتسلق ويستغل ، يظهر في شاشة رادار حياتك وتراه الان ؟ وربما في شاشات التلفزة او جلسات الونسة يتبرع بالجهل ويهرف بما لا يعرف ؟، كم أفعال غريبة يأتي بها حيوان (أجبك ) ولا تجد لها تفسير ؟ كم من حيوان ( أجيب ) بمشي في الأسواق ويغمط الناس حقهم ؟ ولا تجد من يقول له ( عامل زي حيوان اجيب ) . كم إجابات غبية وغريبة لأسئلة سهلة صعبة تجعلك تلصق نعت حيوان أجيب بمن يجب !
والسؤال الان نطرحه أنا وأنت من وحي الضمير الذي لم يزل ينبض حياً نطرحه علي الحيوان الخرافي اجييب ؟ هو سؤال لا تنتظر عليه إجابة ، فإن أجاب ( حيوان أجيبي واجيبك وحيوان اجيب ) أو لم يجب ، أو إن أجبت انت او لم تجب ( كما قالت روضة الحاج ) ها نحن نمضى ثم نعيد شدو سيف الدين الدسوقي : ( عُد بي إلى النيل لا تسأل عن التعب / قلبي يحن حنين الأينق النجب ) !


