رأي

حين يتوارى مادبّو خلف ستار النقد الأدبي هاربًا من وطأة القانون

خالد محمد أحمد

في عالم الكتابة الصحفية، يظلُّ الفارق بين النقد المسؤول والهجوم الشخصي حدًّا فاصلاً يميِّز الكاتب الملتزم عن صاحب القلم المنفلت؛ فالنقد المسؤول يستند إلى وقائع موثَّقة وتحليلٍ موضوعي، بينما ينحدر الهجوم الشخصي إلى مساحة التشهير والتجريح مهما حاول صاحبه أن يكسوه بلبوسٍ أدبي أو فلسفي.

انطلاقًا من هذا المبدأ، يأتي الحديث عن المقالة الأخيرة للدكتور الوليد مادبّو في موقع الراكوبة بتاريخ 11 أغسطس 2025، التي لجأ فيها إلى ما يشبه الهروب إلى الأمام في مواجهة دعوى التشهير التي رفعتها عليه في دولة قطر السفيرة أميرة قرناص؛ إذْ استعصم الدكتور بأسلوبٍ أدبي واستشهادٍ فلسفي لتحويل القضية من نزاعٍ قانوني محدَّد إلى معركةٍ فكرية مفتوحة يختبئ فيها خلف أقوال الأدباء والفلاسفة ونبرة المثقَّف المتمرّد، ربما من باب التوهُّم أن هذا الغطاء سيتيح له الإفلات من تبعات القانون، وتخفيف وطأة الإحراج الاجتماعي الذي جرَّه على نفسه برعونة.

الأزمة في مقالة مادبّو ليست في موقفه فحسب، بل في منهجيته، أو بالأحرى في غيابها؛ فقد أجهض مقالته بالتمادي في مهاوي الشخصنة الفجَّة والمغالطات، التي تنمُّ عن ضعف تقدير المآلات؛ إذْ افتقر نصُّه إلى الحسّ القانوني الذي يُفترَض أن يتحلَّى به أيّ كاتبٍ في ظلّ دعوى قضائية قائمة، فضلاً عن أنه أكاديميٌّ وخبيرٌ في الحوكمة. هذا الغياب المريع للحسّ القانوني صادمٌ، لأنه صادرٌ عن رجلٍ ظلَّ يحمل أحلامًا كبيرة في قيادة حكومة وطنه، وها هو ذا يفشل في إدارة معركته الإعلامية بأدنى درجات الحذر والانضباط المطلوبين في العمل العام. فبدلاً من الاكتفاء بمواجهة الدعوى في ساحتها القانونية، وهو المسار الطبيعي لمثل هذه القضايا، آثر الدكتور إعادتها إلى ساحة الصحافة، مُمعِنًا في المكابرة، ومحاولاً تغليف مقالته بثوبٍ فلسفي منمَّق، وكأنَّه يظنُّ أن استدعاء مرجعٍ أدبي يجعل من نصِّه نظريةً يُحتذى بها، أو دليلاً معتمدًا في المحاكم.

جاء توظيف الدكتور الأدب ليضيف طبقةً أخرى من المراوغة؛ إذْ حاول أن يُضفي على مقالته طابعًا فكريًا ذا بعدٍ نظري، بينما هو في الحقيقة نصٌ جدليّ مبنيّ على أسلوبٍ مُلتبِس يخلط بين النقد العام والتجريح الشخصي، ويغلّف الأغراض السياسية بطلاءٍ ثقافي. لا يمنح هذا الاستغلال الانتقائي للأدب والفلسفة المقال شرعيةً، بل يضع صاحبه أمام مأزقٍ قانوني لتجاوزه النقد إلى التشهير، ومأزقٍ أكاديمي لإخلاله بالمنهجية والموضوعية. وهنا يبرز الخلل الجوهري في إدراكه للفصل بين الإبداع الأدبي وبين المسؤولية القانونية؛ فالفلسفة والأدب قد يفتحان آفاقًا فكرية، لكنهما لا يمنحان حصانةً من القانون، ولا يحميان صاحب النصِّ إذا تجاوز النقد إلى التجريح.

أما المأزق الأكاديمي، فيتمثَّل في افتقار الدكتور مادبّو إلى الرصانة العلمية، التي يُفترَض أن يتحلَّى بها الأكاديمي، إذْ راهن على خطابٍ مبهمٍ يُخفي خلفه مآرب سياسية، مُستسهلاً بناء فرضيته على حالةٍ فردية معزولة، ليخرج بنتيجةٍ كان من المفترض أن يكون محلُّها البحوث العلمية المُحكَّمة، لا المقالات الصحفية العابرة؛ فالأكاديمي الرصين لا يتهوَّر في إصدار أحكامٍ عامة بهذه الخِفَّة من منبرٍ صحفي، لأن المنابر الصحفية بطبيعتها آنية، انفعالية، ومفتوحة على التأويلات، وليست ساحةً لتقرير نتائج علمية أو اجتماعية حاسمة. وقد عمَّم الدكتور هذه النتيجة بلا سندٍ بحثي، في مخالفةٍ صريحة لقواعد البحث الاجتماعي، التي تقوم على عيناتٍ ممثّلة ودراساتٍ مُحكَّمة، لا على حُجَّةٍ قائمةٍ على استثناء. يبعث هذا السلوك التعميمي المُخِلّ من الدكتور على القلق، ولا يُسْتَبعد أن يثير لدى بعضهم الشكوك بشأن مدى التزامه بنزاهة البحث العلمي، وخاصةً إذا بدا أنه لا يتورَّع عن استخدام وسائل تُمكِّنه من الوصول إلى نتائج تثبت فرضياته. ولا يخفى أن آفة البحث العلمي الكبرى هي الغرض.

قد يكون هذا النوع من الاستدلال الانتقائي مألوفًا في المقالات الدعائية أو الخطابات السياسية، لكنه لا يليق بخبير حوكمةٍ، بل يُعَدُّ إخفاقًا مهنيًا وأخلاقيًا؛ فالمسؤول الأكاديمي، قبل السياسي، مُطالبٌ بأن يلتزم بالتحقُّق، والدقَّة، والمصادر الموثوقة، وألا يبني سرديَّاته على هوى الخصومة، أو انفعال اللحظة.

ولعلَّ ما يغيب عن الدكتور مادبّو، أو يتغافل عنه، أنه يريد أن يُحْكَم على مقالته وفقًا لمقاصده الأدبية وحدها، متجاهلاً أن النصوص المنشورة، بمجرَّد أن ترى النور، تصبح ملكًا للتأويل العام، ويُقَاس أثرها بما يفهمه الجمهور، لا بما يختزنه الكاتب في نيَّته الخاصة. وهذا مبدأ أساسي في الفضاء العام؛ فالنصُّ لا يعيش في عقل مؤلِّفه فحسب، بل في عقول قرائه، وما يُفهَم منه هو الذي يحدِّد أثره الاجتماعي والسياسي، سواء اتفق الكاتب مع ذلك التأويل أو لم يتفق. فإذا فهِم الجمهور من نصِّه أنه إساءةٌ شخصية، فإن القانون سيتعامل معه على هذا الأساس، ولن تنفعه حينها الاستشهادات بسقراط أو نيتشه أو غيرهما.

وهكذا يتضح أن الفارق بين زولا ومادبّو ليس في الموضوع فحسب، بل في المبدأ والمنهج. كتب زولا لفضح ظلمٍ مؤسَّسي، بينما كتب مادبو ليصفِّي حسابًا سياسيًا، ثم حاول أن يُلْحِقه بجدلٍ وطني وفلسفي. واجه زولا السلطة بقوُّة الحقّ، بينما واجه مادبّو فردًا بسلطة القلم المنفلت من ضوابط المسؤولية. وما فعله مادبّو لا يضرُّ خصمه فحسب، بل يُسيء إلى صورته هو أولاً بوصفه في عداد المثقَّفين والأكاديميين الطامحين إلى القيادة، فالقائد الذي لا يَزِن كلماته في معركةٍ شخصية، لن يكون أقدر على ضبط قراراته في معركةٍ وطنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى