حين تحولت الحرب إلى انتقام: كيف استهدف “الدعم السريع” المدنيين في السودان؟

منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023، وجد السودانيون أنفسهم في قلب مأساة متواصلة لم تنتهِ فصولها حتى اليوم. ظل المدنيون هم من يدفعون الكلفة الأبهظ قتلاً وجوعاً وحرماناً من الدواء وعزلاً عن العالم. ومع امتداد الحرب وتحولها، لم تعد المعارك تقتصر على جبهات القتال، بل امتدت إلى حياة المدنيين أنفسهم عبر استراتيجية انتقامية اعتمدتها قوات الدعم السريع منذ اللحظات الاولى للحرب وحتى اللحظة ، وهو ما أثبتته تحقيقات استقصائية وتقارير ميدانية اعتمدت على صور الأقمار الصناعية وتحليل الفيديوهات وشهادات الناجين.

منذ الأيام الأولى للحرب، بدت قوات الدعم السريع وكأنها تراهن على عنصر المباغتة، فسيطرت بسرعة على أجزاء واسعة من الخرطوم خلال أبريل ومايو 2023، واقتحمت مقار حكومية، وحوّلت أحياء سكنية إلى مواقع عسكرية. وبتطاول امد الحرب لجأت قوات الدعم السريع إلى تغيير تكتيكاتها، متخليّة عن المواجهة المباشرة لصالح سياسة الأرض المحروقة باستهداف البنية التحتية المدنية والخدمات الأساسية لإضعاف الروح المعنوية والتنكيل بالمواطنين ومارست شتى انواع الانتهاكات التى كانت موجة بصورة مباشرة تجاة المواطنين.

لم تتوقف الانتهاكات والجرائم على التجاوزات والانتهاكات المباشرة في كل المناطق التى كانو بها بل تعداه الى استهداف الاعيان المدنية وقطاع الخدمات العامة في السودان فلم يتوقف استهداف محطات الكهرباء والمياة كما لم تسلم المستشفيات ودور الايواء يوضح هذا النمط توجة استراتيجي منظم يستهدف البنية التحتية للدولة ومقدرات الشعب السوداني .

بين مايو وسبتمبر 2023، تعرضت محطات الكهرباء الرئيسية مثل محطة بحري الحرارية ومحطة قري إلى قصف مباشر، كما جرى تفجير أبراج نقل الطاقة على الطرق التي تربط الخرطوم بمدني. صور الأقمار الصناعية الملتقطة خلال الفترة ذاتها أظهرت انخفاضاً ملحوظاً في الإضاءة الليلية للعاصمة، وهو ما عكس حجم التدمير الممنهج. لم يكن الانقطاع مجرد خلل فني بل كان سياسة مقصودة جعلت المياه تنقطع مع توقف محطات الضخ، وتسببت في وفيات داخل غرف العناية المركزة بسبب تعطل أجهزة التنفس. كما ارتفعت أسعار الوقود المستخدم في تشغيل المولدات بنسبة تجاوزت 300% مع نهاية العام، الأمر الذي أدى إلى شلل شبه كامل للحياة الاقتصادية والاجتماعية.

أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً في المدة التي سبقت مايو 2025، حين شرعت قوات الدعم السريع في سلسلة من الهجمات المركزة على محطات الكهرباء المدنية عبر الطائرات المسيّرة.
سد مروي كان أحد أبرز الأهداف التي تعرضت للهجوم المباشر من قبل قوات الدعم السريع عبر الطائرات المسيّرة. ففي التاسع والثالث عشر والخامس عشر من يناير 2025، تعرضت محطة توليد الكهرباء في السد إلى سلسلة من الغارات المتتالية، الأمر الذي أدى إلى أضرار جسيمة في بنيتها الحيوية. هذا السد الذي يقع في الولاية الشمالية يُنتج نحو 40% من كهرباء السودان، وهو ما جعل استهدافه يترك أثرًا كارثيًا على البلاد بأكملها. الانقطاع الواسع للتيار الكهربائي لم يكن مجرد حادثة تقنية، بل تحوّل إلى أزمة شاملة عطّلت القطاعات الخدمية الأساسية، من المستشفيات إلى شبكات المياه، كما انعكس مباشرة على حياة المواطنين في مختلف الولايات، خاصة أن سد مروي يمثل عصب الشبكة القومية للكهرباء.

وفي الشرق، كانت محطة الكهرباء بمدينة الشوك بولاية القضارف هدفًا آخر للهجمات. ففي 18 يناير 2025، أصابتها طائرات مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع، وهو ما تسبب في انقطاع الكهرباء عن ولايات القضارف وكسلا وسنار دفعة واحدة. هذا الانقطاع لم يكن مجرد انقطاع للتيار، بل شمل توقف محطات المياه وتعطل أنظمة الاتصالات، وأدخل مدن الشرق في حالة شلل شبه كامل لعدة أيام. انعكست هذه الهجمات على النشاط الاقتصادي في الإقليم، خصوصًا في موسم الحصاد الزراعي الذي يعتمد بشكل أساسي على الطاقة لضخ المياه وتشغيل وحدات التخزين والتبريد.

أما في الولاية الشمالية، فقد شهدت مدينة دنقلا في 19 يناير 2025 قصفًا مباشرًا استهدف محطة توليد الكهرباء هناك. الهجوم أدى إلى توقف الإمدادات الكهربائية، مما أثر على سكان المنطقة والمرافق الحيوية فيها. دنقلا، بحكم موقعها الاستراتيجي ودورها في تغذية أجزاء من الشبكة القومية، أصبحت مثالًا واضحًا على أن استراتيجية الدعم السريع باتت تستهدف بشكل مباشر البنية التحتية التي يعتمد عليها ملايين السودانيين في حياتهم اليومية.

وفي العاصمة، جاء الاستهداف أكثر اتساعًا وأكثر خطورة. ففي ليلة 14 مايو 2025، نفذت الطائرات المسيّرة أربع ضربات متزامنة على محطات كهرباء رئيسية في مدينة أم درمان. شملت هذه الهجمات محطة المرخيات التحويلية، ومحطة الكلية الحربية التوزيعية، ومحطة المهدية، إلى جانب محطات أخرى ثانوية. أدت هذه الهجمات إلى اندلاع حرائق ضخمة وانقطاع شامل للكهرباء عن العاصمة الخرطوم. هذا الانقطاع أعاد المدينة إلى ظلام دامس، وأدى إلى توقف المستشفيات عن تقديم خدماتها بشكل طبيعي، كما تعطل الضخ المائي والأنشطة الاقتصادية في سوق العاصمة. كان ذلك واحدًا من أكبر وأخطر الضربات الموجهة ضد البنية التحتية منذ اندلاع الحرب.

ولم تسلم مدينة بورتسودان، التي تحولت إلى العاصمة المؤقتة للحكومة السودانية، من هذه الهجمات. ففي السابع من مايو 2025، استهدفت طائرات الدعم السريع محطة تحويلية للكهرباء في المدينة، إلى جانب مستودعات الوقود ومرافق في المطار. هذه الضربة كانت لها أبعاد سياسية وأمنية بالغة، إذ أن بورتسودان لم تكن مجرد مدينة حيوية اقتصادية، بل أصبحت مقرًا للسلطات التنفيذية والإدارية. الولايات المتحدة ،الجامعة العربية وعدد من الدول في المحيط الاقليمي سارعت حينها لإدانة هذه الهجمات ووصفتها بأنها تصعيد خطير يهدد الاستقرار الإقليمي، معتبرة أن ضرب البنية التحتية المدنية يمثل تجاوزًا واضحًا لقوانين الحرب والأعراف الدولية.

أما مدينة عطبرة، فقد عاشت بدورها واحدة من أعنف الهجمات على محطات الكهرباء. ففي أبريل 2025، تعرضت محطة التحويل الرئيسية هناك للاستهداف للمرة الرابعة منذ بداية حملة الدعم السريع ضد البنية التحتية. كان هذا الهجوم الأعنف، إذ تسبب في انقطاع شامل للكهرباء عن ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر. الانقطاع ترافق مع انفجارات وحرائق أدت إلى سقوط عشرة قتلى وأكثر من عشرين جريحًا، معظمهم من الفنيين والعمال الذين كانوا يحاولون تأمين المحطة ومن السكان القاطنين بالقرب منها. هذا الحدث كشف بشكل جلي أن الاستهداف لم يعد فقط وسيلة ضغط عسكرية، بل تحول إلى حرب انتقامية تستهدف المدنيين بشكل مباشر عبر ضرب شرايين الحياة في البلاد.

بهذه السلسلة من الهجمات، بات واضحًا أن قوات الدعم السريع اعتمدت سياسة منظمة تقوم على شلّ البنية التحتية الأساسية للدولة السودانية عبر استهداف محطات الكهرباء الحيوية في الشمال والشرق والوسط والعاصمة والميناء الرئيسي. لم تقتصر الآثار على انقطاع التيار الكهربائي، بل امتدت إلى تهديد الأمن الغذائي، وإيقاف أنظمة الصحة والمياه، وتعطيل الأنشطة الاقتصادية والتجارية. السودان وجد نفسه أمام أزمة مركبة: حرب مفتوحة في الجبهات العسكرية، وانهيار متدرج في مقومات الحياة اليومية للمدنيين.

لم تكن المستشفيات في مأمن. فبحلول ديسمبر 2023 خرج أكثر من سبعين بالمئة من مستشفيات الخرطوم عن الخدمة، بحسب تقديرات نقابية. بعض هذه المستشفيات تعرض للاقتحام والتحويل إلى ثكنات عسكرية، مثل مستشفى الشعب ومركز القلب اللذين أصابهما قصف هاون في أغسطس 2023 أدى إلى تدمير أقسام الطوارئ. نتيجة لذلك توقفت العمليات الجراحية الطارئة وانعدمت خدمات الولادة والرعاية للأطفال وانتشرت أمراض كان يمكن علاجها بسهولة لولا غياب المرافق الطبية. ومع نزوح مئات الأطباء خلال أواخر 2023 تفاقمت أزمة النظام الصحي بصورة غير مسبوقة.

بين مايو 2023 ويناير 2024 أصدرت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بيانات إدانة متكررة لهذه الممارسات، لكن غياب العقوبات أو التحقيقات الفعلية ترك المجال مفتوحاً أمام الدعم السريع للاستمرار بلا رادع. في المقابل، لعبت فرق بحث مستقلة مثل فريق “إيكاد” دوراً محورياً في جمع الأدلة باستخدام تقنيات المصادر المفتوحة، لتأكيد أن الهجمات كانت منهجية وليست عشوائية. اعتمد الفريق على صور أقمار صناعية أظهرت تدمير محطات الكهرباء وخطوط النقل، وعلى تسجيلات فيديو حددت مواقع سقوط القذائف، وعلى شهادات من سكان المدن الذين عاشوا الانقطاعات الطويلة والحرمان من الغذاء والدواء.

كل هذه الوقائع لا يمكن النظر إليها باعتبارها تجاوزات عشوائية، بل هي نمط منهجي من الانتهاكات. فاستهداف محطات الكهرباء والمياه والمستشفيات ومخازن الغذاء لا يحقق مكاسب عسكرية مباشرة، لكنه يصيب المدنيين في صميم حياتهم اليومية. وهو ما يجعل هذه الأفعال، وفق القانون الدولي، جرائم حرب وأعمال إرهاب. فالقانون الإنساني الدولي، ممثلاً في اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية، يحظر بشكل قاطع الهجمات على البنى التحتية التي لا غنى عنها لبقاء السكان. كما أن الاتفاقية الدولية لقمع التفجيرات الإرهابية لعام 1997 تجرم التدمير المتعمد للمرافق العامة، بينما قرارات مجلس الأمن 1373 (2001) و1566 (2004) تعتبر مثل هذه الهجمات تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وتُلزم الدول بملاحقة مرتكبيها وتجفيف مصادر تمويلها.

إن الاستخفاف بهذه القواعد وتكرار استهداف المدنيين ومرافقهم الأساسية يكشف عن طبيعة استراتيجية الدعم السريع. فهي حرب انتقامية قبل أن تكون مواجهة عسكرية. حرب تُستخدم فيها الكهرباء كوسيلة لإظلام المدن، والمياه لتجويع العطاشى، والغذاء لإخضاع الجائعين، والدواء لترك المرضى يموتون بلا علاج. لقد تحولت المعاناة الإنسانية إلى أداة ضغط سياسي وميداني، وأضحى المدنيون في قلب الاستهداف المتعمد لا ضحاياه العارضين.

Exit mobile version