محمد جلال أحمد هاشم
بموجب إفادة نقلها لي وقتها صديق عزيز (وهو من أهالي الجزيرة ودارفور وموجووووود ومعروووووف)، نقلا عن أحد أقربائه وهو ضابط كبير في الاستخبارات العسكرية، ذلك عندما أُعلن عن أن حميدتي قد تمكن من مغادرة البلاد إلى الإمارات، قال له ذلك الضابط: “نعم، حميدتي حي ونجا من الضربة الجوية جسديا، بعد إصابات بليغة للغاية، لكنه لم ينجُ عقليا، فهو لا يُجمّع بطريقة منطقية. نحن في الاستخبارات العسكرية، عبر عناصرنا في استخبارات المليشيا (وغالبيتهم صف ضباط ينتمون إلينا ولم نطلب منهم التبليغ لدينا بل تركناهم داخل استخبارات المليشيا ليكونوا عيونا لنا) رفعنا توصياتنا، ليس فقط بعدم استهداف حميدتي شخصيا حيث كنا نعرف المكان الذي كان يختبئ فيه، بل أوصينا بضرورة مغادرته للبلاد. فبالنسبة إلينا يمثل قتله والإعلان عن ذلك بما لا يسمح بالشك فيه (بعد معرفة حالته العقلية) أن نواجه من سيخلفه والذي سوف يتعامل معنا وهو بكامل قواه العقلية. بدلا عن هذا، من الأفضل أن يظل حميدتي (وهو في حالته العقلية الراهنة) القائد الأعلى لمليشيات الجنجويد، ذلك عوضا عن أن يأتي قائد بديل له وهو في كامل قواه العقلية. عاملان أساسيان هما ما جعلنا نوصي بهذه التوصية. أولهما أنه لم يحدث في التاريخ الحروب عبر التاريخ أن انتصرت أي قوة عسكرية يقودها قائد لا يتمتع بكامل قواه العقلية. ثانيهما طالما كان حميدتي حيّاً، حتى لو لم يكن بكامل قواه العقلية، لن تستطيع أي قوة على الأرض بفرض قائد بديل له. ولهذا عملنا، عبر عملائنا المنتشرين داخل استخبارات المليشيا، على التركيز بأن يتم ترحيل حميدتي إلى خارج السودان، وهذا بالضبط ما حدث. لقد كنا على علم بكل تفاصيل تحركاته، بدءا بنقله من موقع هيئة العمليات بالرياض حيث أُصيب، ثم نقله إلى مستشفى شرق النيل … انتهاءً بترحيله إلى خارج البلاد عبر المدرّج الترابي بحمرة الشيخ، شمالي كردفان، وبتنسيق تام من جانبنا، انتهاءً بوصوله إلى الإمارات”.
★★★
هذا ما كان لدينا من معلومات وردت إلينا من شخص نثق فيه، نقلاً عن شخص هو يثق فيه، وجميعهم أحياء يُرزقون.
★★★
من دلائل ما قلناه أعلاه أنه كان هناك لقاء قد تم تدبيره ليجمع بين البرهان وحميدتي في جيبوتي. ولكن قبل ساعات من يوم الاجتماع، أعلنت مليشيات الجنجويد بأن عبد الرحيم دقلو هو من سيجتمع مع البرهان، ذلك لأن حميدتي لن يكون في مقدوره حضور ذلك الاجتماع. عندها اعتذر الفريق البرهان عن الاجتماع بأي شخص بخلاف حميدتي. في اجتماع حميدتي بقيادات تقدم في أديس أبابا، لوحظ كيف خرج المرحوم حميدتي عن النص حتى اضطُّرّ حمدوك إلى تنبيهه بالالتزام بما ورد في الورقة، ذلك دون جدوى. هاتان الحادثتان كان ينبغي الانتباه إليهما جيداً، ذلك أن لقاء حميدتي بقيادات تقدم كانت آخر مرة يظهر فيها حميدتي وهو يتكلم ارتجالا، دون أن تكون أمامه أي ورقة ليقرأ منها. في ذلك اللقاء، وحسبما تسرّب إلينا، شعر العديد من الذين حضروا الاجتماع بأن حميدتي هذا ليس هو نفس حميدتي الذي كانوا يعرفونه من قبل.
★★★
ثم ظهر أخيرا حميدتي من سمائه ذات البروج (موتا أم ذهاب عقل) ليخاطب الجمييييييع، سودانيين ومجتمع إقليمي ودولي. ولا نريد أن نخوض فيما خاض فيه الكثيرون من حيث محاولتهم لاستقراء ما جاء في هذا الخطاب الانهزامي، دع عنك من حاولوا أن يصبغوا عليه مسحةً من العقلانية جرّدها المولى نفسه عن حميدتي. هذا الخطاب يمكن تلخيصه في أربع نقاط أساسية على النحو التالي:
*أولاهما:* الإقرار بالهزيمة العسكرية. هذا بالرغم من أنه ذكر بالتحديد هزيمتهم في جبل موية بمحيط ولاية سنار بالنيل الأزرق، بينما صمت عن هزائمهم في محيط شمال الخرطوم بحري والخرطوم نفسها؛
*ثانيهما:* قوله لقواته بأنه ليس هناك أي إمداد عسكري تشويني متوقع لمليشياته في المنظور القريب، ما يعني، بطريقة عملية بحتة، ضرورة أن يستسلموا إذا ما أرادوا النجاة؛
*ثالثهما:* توجيه الاتهامات غير المؤسسة للجميع، دولا ومنظماتٍ، وفي كل الاتجاهات، بما في ذلك “الآلية الرباعية” التي تحتفظ دولة الإمارات العربية المتحدة بعضويتها؛
*رابعتهما* التعويل على إحداث الفتنة الإثنية، ذلك بذكره مجموعات إثنية بعينها بوصفها المسئولة عن كل مصائب السودان في مرحلة ما بعد الاستقلال.
★★★
وبعد؛ كل ما استعرضناه أعلاه يشير إلى وضع جد خطير ، ليس فقط من حيث مترتّبات ما قاله حميدتي حتى الآن، بل مترتّبات ما قد يقوله بعد الآن! فالواضح أن تسجيل مخاطبة حميدتي الأخيرة لم تستوفِ شروط الكفاءة المهنية التصويرية بحسب معايير القنوات الفضائية. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أحد ثلاثة أمور:
1. إما أن الإمارات سمحت له بأن يفعل ما فعله، دون توفير التقنيات اللازمة له، ذلك بحيث يظهر كما لو أنه قد أصبح منبوذا ويتحدث خارج عقله (وفقما عليه حالته الحقيقية)؛
2. أو أنه قام بتسجيل حديثه الأخير عبر موبايل بحسب رأي الكثيرين من المختصين في هذا المجال، ودون إدراك الإمارات لما يقوم به؛
3. كيفما كانت الجهة التي تقف، أو لا تقف، خلف خطاب حميدتي هذا، فإن هذا الخطاب قد استعدى الجميع، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، ما يعني أنه بالفعل مجرد خطاب انهزامي.
★★★
وبعد؛ ليس كل ما سبق مما يقلقنا، ولا مجال للقلق لمن انحاز إلى جانب الشعب، أن المعضلة تكمن فيمن انحازوا إلى مليشيات الجنجويد، أكان هذا الانحياز عن وعي كامل بالتآمر على الشعب ودولته، أم عن غباء أيديولوجي ماحق. هؤلاء ماذا سيكون موقفهم غدا إزاء ما يمكن أن يقوله حميدتي غدا وبعد غدٍ … إلخ (ذلك أكان هو في السماء ذات البروج، أكان في الآخرة معنىً وإمعاناً، أم كان في السماء ذات البروج من حيث عدم قدرته العقلية على متابعة الأحداث).