رأي

حكومة أمريكا في وضع الإيقاف.. من ريغان إلى ترمب… تاريخ الإغلاقات التي أربكت العالم

بقلم: عبدالعزيز يعقوب – فلادلفيا

حين تتوقف الدولة الأقوى في العالم عن العمل، لا يكون السبب انهيارًا اقتصاديًا أو كارثة طبيعية، بل خلافٌ سياسي حول ورقة موازنة.
منذ عهد رونالد ريغان وحتى دونالد ترمب، تكررت في الولايات المتحدة ظاهرة فريدة: أن تشلّ مؤسساتها نفسها باسم القانون، وأن تُغلق أبوابها طوعًا حتى يتفق الساسة على كيفية صرف المال العام.

حين تتوقف الحكومة الفيدرالية في أقوى دولة في العالم، يبدو المشهد كما لو أن آلةً عملاقة انطفأت فجأة، تاركةً خلفها صمتًا إداريًا غريبًا في بلدٍ اعتاد الصخب والعمل المتواصل. المكاتب تُغلق، والموظفون يُحالون إلى بيوتهم، والخدمات تتعثر، فيما تبقى واشنطن عالقةً بين مطرقة الكونغرس وسندان البيت الأبيض.
هذه هي لحظة إغلاق الحكومة الأمريكية: حين تُشلّ الدولة لا بسبب عجز مالي حقيقي، بل نتيجة خلافٍ سياسي حول كيفية إنفاق المال العام.

الإغلاق في النظام الأمريكي ليس قرارًا تتخذه جهة واحدة، بل هو نتيجة حتمية لفشل السلطتين التشريعية والتنفيذية في التوصل إلى اتفاق حول الموازنة أو قوانين الإنفاق. فبحسب الدستور، لا يمكن لأي مؤسسة فيدرالية أن تُنفق دولارًا واحدًا دون تفويض من الكونغرس، فيما يُعرف بـ«قوانين الاعتمادات». وإذا انقضت السنة المالية – التي تنتهي في 30 سبتمبر – دون تمرير هذه القوانين أو إصدار تمويل مؤقت، تتوقف تلقائيًا كل الأنشطة الحكومية غير الأساسية.

عندها تبقى فقط الخدمات المصنفة «أساسية» مثل الجيش والأمن القومي والمستشفيات الفيدرالية وإدارة الطوارئ، بينما تتوقف بقية الأجهزة، من التعليم إلى البيئة، ومن مكاتب الجوازات إلى الحدائق الوطنية. عشرات الآلاف من الموظفين يُحالون إلى إجازات إجبارية بلا أجر، وآخرون يواصلون العمل مؤقتًا دون رواتب. وفي هذه الفوضى المنظمة، يظل المواطن هو الخاسر الأكبر، إذ تتعطل معاملاته، وتتأخر المساعدات، ويُصاب الاقتصاد بحالة شلل مؤقت.

لكن ما يجعل الإغلاق الأمريكي ظاهرة متكررة هو أنه ليس مجرد خلل إداري، بل أداة سياسية بامتياز، تُستخدم في لعبة الشد والجذب بين الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي. إنها ساحة مواجهة بين رؤيتين متناقضتين للدولة: رؤية ترى الحكومة أداة للعدالة والرعاية، وأخرى تراها عبئًا ماليًا يجب تقليصه. ومنذ نهاية القرن العشرين، أصبح الإغلاق وسيلة ضغط ومساومة، لا مجرد عرض جانبي للأزمة.

وفي خريف عام 2025، دخلت الولايات المتحدة مجددًا هذه الدائرة المفرغة. فقد انتهت السنة المالية دون أن ينجح الكونغرس في تمرير الموازنة أو حتى قرار التمويل المؤقت المعروف باسم Continuing Resolution. والسبب الجوهري هو الانقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين حول أولويات الصرف.
الديمقراطيون طالبوا بتمديد الإعفاءات الضريبية المرتبطة بالتأمين الصحي وتمويل برامج الرعاية الاجتماعية ومشروعات البنية التحتية، بينما رفض الجمهوريون هذه الإضافات، واعتبروها إنفاقًا مفرطًا يعمّق العجز المالي.

ولم يكن الخلاف ماليًا فحسب، بل أيضًا سياسيًا وانتخابيًا، إذ يسعى كل حزب إلى كسب الرأي العام قبل انتخابات العام المقبل. الديمقراطيون يقدمون أنفسهم حماةً للطبقة الوسطى، والجمهوريون يصورون خصومهم كقوةٍ تدفع البلاد نحو تضخمٍ دائم وعجزٍ متفاقم. وبين الخطابين المتناقضين، سقطت الحكومة في فجوة الخلاف.

ورغم التحذيرات المتكررة من آثار الإغلاق على الاقتصاد، فشل الطرفان في التوصل إلى تسوية مؤقتة. توقفت الوكالات، وأعلنت وزارة الطاقة أن الوكالة المسؤولة عن الترسانة النووية الأمريكية ستُجبر على تسريح 80% من موظفيها مؤقتًا.
تعطلت مكاتب السفر، وأُغلقت الحدائق الوطنية، وتأخرت المساعدات الفيدرالية، فيما بدأ الأمريكيون يوزّعون اللوم على الحزبين معًا، بعدما أظهرت استطلاعات الرأي أن الغضب الشعبي هذه المرة لا يفرّق بين ديمقراطي وجمهوري.

لكن الإغلاق الحالي ليس الأول في التاريخ الأمريكي. فمنذ مطلع الثمانينيات، عرف الأمريكيون أكثر من عشرين إغلاقًا حكوميًا، تفاوتت في مدتها وحدّتها.

في عهد رونالد ريغان (1981–1984)، شهدت البلاد عدة إغلاقات قصيرة استمرت من يومين إلى أربعة أيام، بسبب خلافاته مع الكونغرس حول خفض الضرائب وتقليص برامج الرفاه. كانت محدودة الأثر لكنها أرست سابقة سياسية مهمة، إذ استخدمها الكونغرس كوسيلة ضغط على الرئيس.

ثم جاء الإغلاق الشهير في عهد بيل كلينتون (1995–1996)، حين اشتعل الصراع بينه وبين مجلس النواب الجمهوري بقيادة نيوت غينغريتش. الجمهوريون أرادوا خفض الإنفاق وإصلاح برامج الرعاية، بينما رفض كلينتون المساس بها. استمر الإغلاق 21 يومًا وأصاب الإدارة بالشلل، لكنه انتهى بانتصار سياسي للرئيس الذي خرج بمظهر المدافع عن المواطن العادي.

وفي عام 2013، دخلت إدارة باراك أوباما مواجهة مماثلة، حين رفض الجمهوريون تمويل قانون الرعاية الصحية المعروف بـ«أوباماكير». استمر الإغلاق 16 يومًا وتوقف خلاله عمل معظم المكاتب الفيدرالية، وقدرت الخسائر بنحو 24 مليار دولار. ومع ذلك خرج أوباما منتصرًا سياسيًا بعد أن اضطر خصومه إلى التراجع وتمويل الحكومة دون المساس بالقانون الصحي.

أما أطول إغلاق في التاريخ الحديث فكان في عهد دونالد ترمب (ديسمبر 2018 – يناير 2019)، واستمر 35 يومًا. تمسك ترمب بتمويل الجدار الحدودي مع المكسيك بقيمة 5.7 مليارات دولار، ورفض الديمقراطيون ذلك رفضًا قاطعًا. توقفت رواتب أكثر من 800 ألف موظف، وتأثرت قطاعات النقل والطيران والأمن، وانتهى الإغلاق بتراجع الرئيس مؤقتًا قبل أن يستخدم صلاحياته لإعادة توجيه أموال من بنود أخرى لتمويل الجدار جزئيًا.

تُظهر هذه الإغلاقات، على اختلاف أسبابها، أن جوهرها واحد: صراع حول فلسفة الدولة وحدود سلطتها. فالجمهوريون، منذ عهد ريغان، يرفعون شعار «تقليص حجم الحكومة وخفض الضرائب»، بينما يتمسك الديمقراطيون بفكرة أن الدولة مسؤولة عن ضمان العدالة الاجتماعية والرعاية الصحية والتعليم. وبين هذين الاتجاهين، تتكرر الأزمة في كل دورة مالية تقريبًا.

ورغم ما تحمله هذه الإغلاقات من اضطراب، فإنها تكشف جانبًا من الصرامة الدستورية في النظام الأمريكي. فالحكومة لا تستطيع تجاوز الكونغرس حتى لو أدى ذلك إلى توقفها مؤقتًا. لا إنفاق بلا تفويض، ولا سلطة فوق القانون. إنها الديمقراطية الأمريكية حين تبلغ أقصى درجات الانضباط، لكنها أيضًا ديمقراطية تتعثر كلما احتدم الانقسام وفقدت الطبقة السياسية قدرتها على التفاهم.

وفي كل مرة يحدث فيها الإغلاق، تتوزع الخسائر: الموظف يفقد راتبه مؤقتًا، المواطن ينتظر خدمته بلا جدوى، الاقتصاد يخسر مليارات، والسياسيون يتبادلون الاتهامات على الشاشات. ومع ذلك، فإن الدولة لا تسقط. فالإغلاق لا يعني انهيار الحكومة، بل تجميدها مؤقتًا حتى يتوصل الساسة إلى اتفاق جديد يعيد عجلة الإنفاق إلى الدوران.

وهكذا، يظل إغلاق الحكومة الأمريكية ظاهرةً تكشف التناقض العميق في بنية القوة الأمريكية نفسها: فبينما تمتلك واشنطن أقوى جيش وأضخم اقتصاد في العالم، يمكن أن تتوقف إدارتها بالكامل بسبب ورقة موازنة لم تُوقّع في موعدها. إنها المفارقة التي تذكّر الأمريكيين والعالم بأن القوة ليست في السلاح أو المال، بل في القدرة على إدارة الخلاف.

فحين تتوقف الدولة في قلب القوة العظمى، لا يكون ذلك دليل ضعف، بل تعبير عن طاعة القانون حتى على حساب الكفاءة المؤقتة. إنها دراما الديمقراطية الأمريكية التي لا تموت بالإغلاق، بل تختبر نفسها به. وفي كل مرة تُغلق فيها الحكومة أبوابها، تفتح السياسة بابًا جديدًا للسؤال:
كم من الحرية يمكن أن تتحملها الدولة قبل أن تتعطل مؤقتًا باسم القانون؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى