في عام 2019، أُطيح بعمر البشير، الذي ظل رئيسًا للسودان ثلاثين عامًا، في انقلاب. الحكومة الانتقالية الجديدة كانت ترتيبًا لتقاسم السلطة بين الأحزاب السياسية المدنية، والجيش النظامي، وقوات الدعم السريع، وهي أحدث تجسيد لميليشيات الجنجويد – التي جُنِّد معظم أفرادها من العرب في دارفور – والتي استخدمها البشير لسحق التمرد في الإقليم.
في عام 2023، تصاعدت التوترات بين المكونين العسكريين للحكومة. وأشعل الحديث عن دمج قوات الدعم السريع رسميًا داخل الجيش فتيل المواجهة: إذ رفضت قوات الدعم، التي كانت قد حصلت تدريجيًا على استقلالية، أن تقبل بدور تابع، ليندلع القتال فجأة بين الطرفين. وقد كانت النتائج كارثية، خاصة في دارفور.
الطريق الرئيسي غرب مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، كان قد هجره المسافرون أثناء حرب الإقليم قبل عشرين عامًا. الجبال البركانية المدببة كانت ملاذًا لقطاع الطرق. صار الطريق يُعرف الآن باسم “شارع الهوا”. أما الطريق الجديد بين الفاشر ومدينة طويلة فليس أكثر أمنًا، بل يُعرف بـ “طريق الموت”. حين سلكته لأول مرة في أكتوبر الماضي، كان تحت حماية جيش تحرير السودان، أحد الفصائل المتمردة القليلة التي ظلت محايدة في المواجهة بين الدعم السريع والجيش. جاءت قواته من معاقلها في جبال مرة لتمكين المدنيين من المرور كل يوم جمعة.
الفاشر هي آخر معقل للجيش في دارفور، وهدف رئيسي لقوات الدعم السريع التي تسيطر على بقية مدن الإقليم وتحاصر العاصمة منذ أبريل العام الماضي. في البداية، قبلت قوات الدعم على مضض حماية الفصيل المحايد للطريق الممتد أربعين ميلاً من طويلة، لكنها غيّرت رأيها في نوفمبر، متذرعة بأن الممر يمد حامية الجيش بالتموين.
حين عدت في مايو، كانت الدوريات المتمردة قد استبدلت بنقاط تفتيش تابعة للدعم السريع. قرب إحدى النقاط، كان الطريق مليئًا بالحقائب المفتوحة والملابس والكتب المدرسية. قال شهود إن المدنيين المغادرين للفاشر كانوا يتعرضون للتفتيش من قوات الدعم السريع وميليشيات عربية متحالفة، التي كانت تأخذ ما تشاء وتترك الباقي. كانت عربات الكارو الفارغة تقف إلى جانب الطريق: فقد صودرت الحمير، واضطر أصحابها للسير على أقدامهم. كما سرق الناهبون المياه من الجِرار التي يحملها الخارجون من المدينة، مما أدى إلى وفيات بالعطش والإرهاق، دلّت عليها القبور الطازجة بجانب الطريق. ربما مات نحو مئتي شخص هنا في شهر واحد.
ما زالت هناك جثث في الأحراش، كما أخبرني أعضاء من فصيل متمرد آخر أصبح حليفًا للدعم السريع. قالوا إن الضحايا ينتمون إلى نفس الجماعات غير العربية التي استهدفتها قوات الدعم. كانوا يحاولون إنقاذ سمعتهم عبر دفن الموتى ومساعدة المدنيين المتجهين إلى طويلة. ممرضة ترتدي معطفًا أبيض كانت تسقي الأطفال المنهكين ماءً ممزوجًا بالدقيق، بينما يساعد رجال بالزي العسكري عشرات الناجين على الصعود إلى مقطورة ليكملوا رحلتهم.
لكن لم يكن ذلك مجرد دعاية. مثل كل الفصائل التي قاتلت الحكومة المركزية البعيدة والقاسية لعشرين عامًا، اكتشف هؤلاء المقاتلون وأهلهم أن مجتمعاتهم أصبحت ضحية حرب جديدة بين جناحين من الجيش السوداني كانا من قبل شركاء في قمعهم. فالجيش والجنجويد تعاونا في تدمير دارفور بين 2003 و2005، وهي حرب ما زالت المحكمة الجنائية الدولية تحقق فيها كإبادة جماعية.
بدا واضحًا أن حربًا جديدة تلوح في الأفق بعد سقوط البشير مباشرة. ففي دارفور كان هناك استياء من أن “الانتقال” في الخرطوم لم يكن إلا شكليًا. وفي العاصمة، واصل الجيش والدعم السريع العمل معًا إلى أن أطاحا في أكتوبر 2021 بالحكومة الانتقالية ورئيس وزرائها المدني. وغالبًا ما يُصوَّر النزاع الذي بدأ في أبريل 2023 كـ “حرب بين جنرالين”، مع المدنيين ضحايا في الوسط. مثل هذا الصراع على السلطة ربما كان محصورًا في الخرطوم وأسهل في الحل.
لكن قوات الدعم جندت بكثافة من القبائل العربية في دارفور التي تشكل أصلًا عمودها الفقري. سرعان ما أخذت الحرب طابعًا عرقيًا، إذ بلغت التوترات القديمة بين العرب وغير العرب ذروتها في مجزرة عشرات الآلاف من قبيلة المساليت – الغالبية في غرب دارفور – على يد الدعم السريع وميليشيات متحالفة في الجنينة في يونيو 2023، وفرار الناجين إلى تشاد. يشكل المساليت نسبة كبيرة من نحو 900 ألف لاجئ سوداني وصلوا إلى تشاد في النصف الثاني من 2023. وبنهاية ذلك العام، كانت قوات الدعم قد سيطرت على الجنينة، عاصمة غرب دارفور، وكذلك على عواصم ثلاث ولايات أخرى، ولم يبقَ سوى الفاشر خارج قبضتها.
بدأت قوات الدعم تفاوض المجموعات المتمردة غير العربية التي نشرت قواتها في الفاشر بموجب اتفاق 2020 مع الحكومة الانتقالية. عرض عبد الرحيم، شقيق حميدتي ونائبه، أن يديروا الفاشر بأنفسهم إذا أقنعوا الجيش بالمغادرة. بعض القادة هددوا بالقتال إن دخل الدعم السريع المدينة، خشية تكرار مجازر الجنينة. انقسم المتمردون بين مؤيد ومعارض للدعم. في البداية تجنبت قوات الدعم مواجهتهم للتركيز على الخرطوم، لكن مع انحياز غالبية المتمردين للجيش في أواخر 2023 وتراجع الدعم السريع في العاصمة، ارتفعت مكانة الفاشر لتصبح مسرحًا رئيسيًا للحرب.
في أبريل 2024، حاصرت قوات الدعم المدينة وسكانها المليون، وبدأت في قصفها. وخلال عام، شنت أكثر من مئتي هجوم بري، فيما رد الجيش بغارات جوية أصابت أحيانًا المدنيين. قُتل مقاتلون من الطرفين، بمن فيهم ضباط كبار من الدعم السريع. المدنيون الذين حملوا السلاح للدفاع عن مدينتهم كانوا أكثر فاعلية من الجيش. جرائم الدعم في الجنينة – ومجازر عهد البشير – زادت إصرارهم. وصار يُطلق على الفاشر “شوارب الأسد”، أي أن من يقترب منها أهوج.
منذ أبريل 2023، قال لي ياسر، مقاتل من الفاشر عمره 32 عامًا: “دخلت قوات الدعم البيوت، خطفت النساء واغتصبتهن، نهبت المركبات، قتلت وأذلت الناس. أرادوا قتلنا. حينها شكلنا قوات الدفاع الذاتي”. كان قليل الخبرة العسكرية، عمل سابقًا مع بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي قبل أن تُحل، ثم لجأ إلى تهريب السيارات من ليبيا. في الصحراء المليئة بقطاع الطرق وجنود الدعم، اضطر هو ورفاقه إلى شراء أسلحة من ليبيا لحماية قوافلهم. لعب التجار دورًا حاسمًا في تسليح وحدات الدفاع الذاتي، التي اختارت أسماء مثل “إرد-إرد” (المتقاطعة) و”خشن”. هذا الحراك المدني كان ذريعة للدعم كي يكرر أن “لا وجود لمدنيين في الفاشر”.
مع هجمات الجيش والمقاومة الشعبية، ردت قوات الدعم بمزيد من العنف ومنعت دخول الإمدادات. لبضعة أشهر، اعتمدت الفاشر على “ممر الجمعة” من طويلة. بعد إغلاقه، لجأ التجار والمقاتلون لركوب الجمال ليلًا لجلب الطعام، ما عرّض بعضهم للقتل أو الجرح. ارتفعت الأسعار بشكل جنوني: وصل ثمن البصلة الواحدة إلى ألف جنيه، بعد أن كان سعر عشر بصلات قبل الحرب. لجأ الفقراء لأكل علف الحيوانات مثل “الأمباز”.
وفق تصنيف IPC للأمن الغذائي، أدى الحصار إلى مجاعة. ففي مارس 2024، أظهرت عملية مسح في معسكر زمزم (جنوب الفاشر، نصف مليون نسمة) أن 29% من الأطفال مصابون بسوء تغذية. في أغسطس أعلن التصنيف المجاعة هناك، وفي ديسمبر امتد لمعسكرين آخرين. في مارس هذا العام، قالت السلطات إن 38% من أطفال الفاشر تحت الخامسة يعانون سوء التغذية.
كان زمزم يُعتبر آمنًا، لكن في أبريل 2024، شن الدعم السريع هجومًا واسعًا: قصف مدفعي ومسيرات تبعه هجوم بري مستمر. انهار الدفاع عن المعسكر سريعًا. قال ياسر: “لو دعمنا الجيش ما كان ليستطيعوا دخول زمزم”. لكنه لم يفعل. قُتل ثلث رفاقه. قُتل المئات من النازحين، وفر عشرات الآلاف إلى طويلة.
قصة ندى (25 عامًا) تكشف الفظائع: نزحت خمس مرات، وفي الهجوم على زمزم قُتل زوجها وعمها وطفلها البالغ خمس سنوات أمامها، وأُصيبت هي بالرصاص، ثم فقدت طفلها الآخر. نُفذت إعدامات جماعية بحق رجال وصبية، وحتى عمال الإغاثة (9 موظفين من منظمة ريليف إنترناشونال).
الهجوم كان عرقيًا: ركز على الزغاوة، العمود الفقري للمتمردين والدفاع الذاتي. سأل الجنود الناس عن قبائلهم، تحدثوا إليهم بالزغاوية، فتشوا هواتفهم، بحثوا عن آثار استخدام الأسلحة أو عن الضفائر المميزة للمقاتلين. من هرب تعرّض للقتل أو الاغتصاب.
بعد المجزرة، ارتفع عدد النازحين في طويلة إلى 600 ألف. أول ما بحثوا عنه الماء والظل، ثم المأوى. انتشرت المطابخ الجماعية (التكايا) بجهود الشباب ومنظمات الاستجابة الطارئة (ERR)، بدعم من تحويلات التجار والشتات. لكن نقص التمويل العالمي أغلق العديد منها.
الآلاف الآن يفكرون في مغادرة السودان نهائيًا، خصوصًا بعد تهديد الدعم بأن طويلة ستكون هدفه القادم. كثيرون يهاجرون إلى تشاد بدفع مبالغ باهظة لميليشيات تابعة للدعم نفسه.
قال لي ياسر: “لو سقطت الفاشر في يد الدعم السريع، فلن يبقى لنا [غير العرب] أرض في هذا البلد”. وسألني عبر واتساب إن كان ماكرون أو ستارمر سيلقيان الطعام جوًا على الفاشر “كما في غزة”. لقد حفر الدعم خندقًا وبنى ساترًا رمليًا طوله 57 كيلومترًا ليطوّق المدينة. الحرب تُدار بشكل متزايد بالطائرات المسيّرة: الشهر الماضي أصاب أحدها مسجدًا في حي “درجة أولى” وقتل 70 مصلٍّ فجرًا.
مرّ عام ونصف منذ أن تبنى مجلس الأمن القرار 2736 الذي يطالب بوقف حصار الفاشر. لكن بعد عقود من التدخل الغربي غير المجدي، صار هناك إجماع على أن السودانيين وحدهم يمكنهم إنقاذ بلدهم. هذا المبدأ قديم، استُخدم من قبل البشير لتأجيج القومية ضد المؤامرات الغربية، وكذلك من قبل الاتحاد الأفريقي باسم الوحدة الأفريقية. الآن، يراهن صانعو القرار الغربيون على “المدنيين” و”المجتمع المدني” – رغم انقسامه وضعفه – وخاصة غرف الطوارئ. وقد رُشحت هذه الغرف لجائزة نوبل للسلام. لكن أحد مؤسسي غرفة زمزم قال لي: “دعك من نوبل، الأولوية وقف الحرب”. وهو الآن لاجئ في تشاد، يعتمد على مساعدات غربية شحيحة وغير مضمونة.
مجلة لندن ريفيو أوف بوكس – العدد 47، رقم 19 – 23 أكتوبر 2025
حصار الفاشر
