رأي

حش التَمُر

د. حسن سعيد المجمر

ما لهؤلاء يكثرون الجدال حول البلد نيلها وترابها ونخيلها في غربتهم المتطاولة في المهاجر بعيدا عن الوطن، سنوات بعضها خضر وبعضها عجاف كدن يبلغن في العدد حبات سبحة أجدادهم، هجرتهم تلك لم يتغير خلالها اتجاه الرياح التي ظلت تهب على البلد حاملة سحابات القِبلي السود المنذرة بالمطر الغزير في بيوت سقفها من جريد النخيل المُغطى بالجلة التي هي نتاج تخمير الطين وروث الأبقار، بل لم يفتر فيها عزم النخيل الذي غرسوه عن إنتاج أبو رأس والرطب والتمر في موسم حصاده كل عام. فالأرض في البلد ما زالت تلك الأرض البكر تقسم إلى جنابيات يشقها الجدول الضكر ويقوى فيها سوق المريق وقندول القمح ويزهر فيها الفول المصري واللوبيا والمُقد، والمياه التي ترويها ما زالت هي المياه العذبة ولو عكر صفوها موسم الدميرة.. أما النيل صاحب العهد فما زال تياره قوياً ينساب مسرعاً يسابق خيوط شمس الأصيل ليصب في حُقِ المغيب، وإن توسطته جزر الرمال وبعض أشجار الطرفي، التي لم يكن بوسعها أن تصمد أمام أمواجه الهادرة التي ظلت تطلقها البواخر كربكان والجلاء والزهرة وعطارد.
الناس في البلد بل في كل مكان تتدرج حياتهم بين القوة والوهن، يمرضون ويموتون، حتى الأثرياء منهم لا يغني عنهم مالهم إذا تردوا، وفي ذلك يستوي من أقام في المهاجر والمدن والأرياف.
أهل البلد، رحلة حياتهم عامرة لا يهدد سكونها تعثر تجديد إقامة، ولا إنهاء عقد عمل ولا بلوغ سن المعاش، ولا فقدان التأمين الصحي الخاص أو العام، هؤلاء يستنشقون في الريف كل فجر نسائم الدعاش التي تعبر الحقول، وعبق النوار، ويتذوقون الكَداد ( نوح ملاح محلى) والقَنقر ( قنديل الذرة الشامية ) ويتلذذون بأسماك النيل: الداشكوق، والكانكيل، والدبس وخشم البنات ( أولع من الأسمال النيليه ) وأحياناً يصيد أحدهم بقرة أو عجل تكفيه وجيرانه ليومين.
وأهل البلد يحتفون بموسم حش التمر، فهو عندهم بمثابة عيد، رغم حدة الكتمة التي إن انفرجت هبت بعدها السموم ولسعات الأشواك، وصياح القفاز إذ اكتشف داب على رأس النخلة الشاهقة، أو أراد منبها الصغار أنه سيقذف بالسبائط المثقلة بالتمر تباعا على الأرض.
إنه موسم يسعد فيه الملاك وغيرهم على السواء، فلا أحد يخرج منه خال الوفاض. الذين يقومون بتلقيط التمر من الفقراء يأخذون -الكرامة- والذين يأتون عابرين أيضا يتذوقون نفحة منه، أما الصغار فهم الأكثر حظاً، لأنهم مكان احتفاء أصحاب الجنائن يدعونهم هنا وهناك حتى لا يجدون في برنامجهم اليومي فسحة للهو وهم سعداء بموسم الإنتاج، حصيلتهم من تمر الهبوب، ومن الكرامات يكفيهم لمصاريف الدراسة والكساء والاستمتاع بعلب الطحنية، وصناديق حلوى لكوم.
أما التجار فيأخذون النصيب الأكبر مقابل توفير الاحتياجات الأساسية لأسر الملاك من سُكر وشاي وزيت وبُهارات وكبريت وغيرها مما لا تُنتِجه الأرض. وأصحاب الجمال كذلك كان يعتمد عليهم في ترحيل حصيلة العام من التمر إلى الحيشان قبل أن تحل البرينسات محلهم فيستبدلوا جمالهم بها.
لا يوجد حوش في كل فرقان البلد خاليا من جذوع النخيل -الأُمبُق- الممددة على الحجارة الصلبة حاملة وحامية شوالات -الأكياس- من أن تصلها الأرضة أو أي بلل يصيب الأرض، وإلى جوارها قسيبي أو قسابيات (بناء يشبه البرميل يحفظ فيه التمر او القمح او الذرة ) يحفظن داخلهن تمر المأكولات: الأبتمود، والقنديل، والإسكنتة، والكرشة، والقنديل، والعجوة. فالشمس هناك وبعض حفنة من الرماد والشطة كانت جميعا أو منفردة كافية لحفظ التمور من أن تتعرض للسوس.
الأرياف في كل مكان انتاجها وفير ومبارك، فيها تنوع قل أن يتوفر في غيرها من الأمكنة: فيها ثلاث مسرات تزرع فيها المحاصيل والخضروات، وفيها تربية وتسمين البهائم أبقار، وأغنام، وماعز، ودواجن، وفيها مزارع الأسماك والنحل، وفي قطع الغابات، وصناعة الفحم والطوب. هذه المنتجات كلها مطلوبة في الأسواق المحلية والخارجية.
ينقص الأرياف الإرادة السياسية للأنظمة الحاكمة، والرغبة والقدرة للتغيير عن ممثلي المجتمعات المحلية الذين ظل معظمهم يتخذ من انتخابه فرصة لهجرة البلد، وتغيير نمط عيش أسرته الصغيرة.
أما أولئك الذي هجروا حتى عواصم ومدن بلادهم إلى أصقاع الدنيا يحملون في دواخلهم ذكريات وروابط دفينة تهيجها ملامح الشبه كلما مروا بواد أو قيلوا تحت شجرة أو انحدروا في مسيرهم بين الجبال.
يقوم أحدهم ومقلته تتفجر ينابيع وسيلا أن الأشواق الدفيقة للوطن لا تسعها العبارات ولا حتى يكافئها لحن محراب النيل ولو هيج فيها لهيب الذكرى، فالطيور المهاجرة ترهب أن تحمل على أجنحتها أثقال لوعته لمرتع صباه وللخرطوم حتى لا يتجنى على أصحابه من أبناء، فيهم أيضا يحنون بأسى يخالطه الدمع لمقرن النيلين ولاستاد المريخ وللمين روود في مجمع الوسط بجامعة الخرطوم، ولمقابر فاروق وأحمد شرفي، وحلة حمد والصحافة التي حرمتهم من أحضان والديهم الذي ما علموا بتطاول هجرتهم عن إلقاء تحية وأنس.
أولئك المهاجرون يرون المستقبل في يُسر الوصول للعلاج في المرض، وتعليم الأبناء في بيئة ثقافية مختلفة، فيكسبون مؤقتا دعة العيش حتى يهجرهم من أوقدوا له حياتهم شمعة، فيجدون أنفسهم غرباء وحيدين تتنازعهم رقة قلب لا توائم طبيعة نشأتهم في ريف أو بوادي أو مدن الجنوب، ولا بتجربة الغربة التي لم تستطع غرس مسلة التوازن بين العاطفة والعقل وهم في بلاد يتجمد فيها الماء منتصف النهار وتتحول فيها الحقول والأشجار الخضراء إلى مجرد أعواد ، يظلون يذكرون بلادهم التي أنبتت أرضها الخصبة مثلهم ومثل أبنائهم الآلاف الذي بقوا فيها كأشجار النخيل السامقات أو عادوا إليها بلهفة كطيور الرهو عابرة من الأصقاع البعيدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى