عبد الله علي إبراهيم
رثى القيادي بتنسيقية القوى التقدمية المدنية “تقدم” في السودان ياسر عرمان “الدعم السريع” بعد احتلاله الجزيرة في ديسمبر 2023، وسوء الصيت الذي لاحقه جراء إفراطه في الفظاظة بحق أهلها. ورآه كمن يفقع عينه بإصبعه قائلاً، “كأن الدعم السريع نصب لنفسه فخاً باجتياح الجزيرة، أو ابتلع فخاً نصبه خصومه من الفلول”. فما كان أغناه عن غزوة زادت وبالاً سجله في خرق القانون الإنساني للحرب، ومع ذلك فخسارة “الدعم” فعل متعدٍ، إذ لم يخسر باحتلال الجزيرة وحسب، بل تعدت الخسارة أيضاً إلى طوائف من دعاة “لا للحرب” التي رغبت في أن تقف على مسافة واحدة من الطرفين في زعمها. فأثارت هذه الانتهاكات وسطها ثائرة السؤال إن كانت قياداتها على العهد في الحياد الحربي لا تزال، أم جنحت إلى طرف “الدعم السريع”؟
وساق السؤال إلى خلافات جدية خصمت من رصيد “الدعم” في محيط المدنيين الداعين إلى السلام من موقع مستقل. فتجدد الخلاف في التجمع الاتحادي، العضو في “قوى الحرية والتغيير” و”تقدم”، بين سكرتاريته وجماعة عرفت بالمكتب القيادي. وأصدر الأخير بياناً في الأول من أبريل الجاري شن به اتهامات ضد السكرتارية قائلاً إنها اتخذت قرارات استراتيجية خارج المؤسسية، مثل الانضمام إلى حلف “تقدم” بلا إذن من الحزب، وتوقيع إعلان المبادئ مع “الدعم السريع” خلال يناير 2024 في أديس أبابا بصورة فضحت انحيازها لطرف “الدعم” في الحرب.
وخلص البيان إلى تجميد عضوية التجمع في “قحت” نفسها، ناهيك عن “تقدم” وفصل أعضاء في سكرتارية الحزب.
أما الخلاف الأكثر تأثيراً وخطراً فهو الذي انفجر في أروقة حزب “الأمة القومي”. وهو الحزب الأغزر في “قحت” و”تقدم” بل وبين الأحزاب كافة. وكان حصل على 101 مقعد من 260 مقعداً في آخر انتخابات ديمقراطية عام 1986، حصد فيها 38 في المئة من أصوات السودانيين. وحصل الحزب “الاتحادي الديمقراطي” الذي يليه على 63 مقعداً بنسبة 30 في المئة من الأصوات، وكان الحزب نشأ في فبراير (شباط) عام 1945 على يد عبدالرحمن المهدي إبن محمد أحمد المهدي الذي أسس الدولة المهدية في السودان (1885-1898) قبل أن يقضي الإنجليز عليها. وقوام الحزب هم شعب أنصار المهدي وذريتهم إلى يومنا ممن نجح الإمام عبدالرحمن في إعادة تجميعهم بعد نكبة هزيمتهم بطرائق ذكية ومختلفة أوفاها درساً المؤرخ حسن أحمد إبراهيم في كتابه عنه. ومن ذلك توظيف تصالح الإنجليز معه بعد بغضاء في عشرينيات القرن الماضي ليستنهض الأنصار طاقة دينية تاريخية سياسية ذات حول. وكانت ولاية دارفور، معقل الأنصار، عبارة عن دائرة مغلقة للحزب. فحصل في انتخابات عام 1986 على 34 دائرة من دوائرها الـ29 بلا منازع. وكانت رئاسة الوزارة فيه بكل الفترات الديمقراطية الثلاث في السودان باستثناء فترة الحكم الذاتي (1954-1956).
وتفجرت الأزمة داخل الحزب في أعقاب اختيار قوات “الدعم السريع” في الـ 25 من مارس الماضي أعضاء من الحزب في الإدارة المدنية لولاية الجزيرة، وبدأت بـ “بيان للناس” في الـ 29 من الشهر ذاته من السيدة رباح الصادق المهدي، إبنة البيت المهدي والصحافية المرموقة ومساعدة رئيس الحزب ورئيس مجلس التنسيق فيه، والتي حررت سيرة والدها الإمام الصادق المهدي وكتاباته في مجلدات لا تزال تصدر.
ورفضت رباح في بيانها كل التكوينات والإدارات مثل حكومة “الدعم السريع” المدنية التي ترتبت على الأوضاع الطارئة منذ حرب الـ 15 من أبريل 2023. وأضافت أنه، طالما ناهض الحزب هذه الحرب ويسعى إلى وقفها بالتزام الوقوف على مسافة واحدة من طرفيها، فـ “كل منضمّ إليها أو مشارك في إداراتها المدنية وفي التدابير القمينة بتوسعة رقعتها، أو في تعميق الانقسام المجتمعي الذي أحدثته، يعتبر مخالفاً لقرار الحزب وخارجاً عن خطه ولا يمثل إلا نفسه، وسيحال كل من شارك إلى هيئة الضبط ورقابة الأداء للمساءلة والمحاسبة”.
ولما أرسلت رباح بيانها للنشر على صفحة الحزب في “فيسبوك” ورفضت أمانة الحزب نشره، كتبت في الـ 30 من مارس الماضي تحتج على ذلك الحجب لكلمة أرادت منها الإجابة عن تساؤلات حول نسبة من شاركوا في حكومة “الدعم السريع” للجزيرة من الحزب. وبدا أن قيادة الحزب عللت لرباح عدم نشر بيانها بصدوره عن جهة غير مأذونة وهي مجلس التنسيق كما سنرى في بيان لاحق لها مع أن بيان رباح الذي نشرته على صفحتها مذيل بـ “حزب الأمة القومي”.
وحملت رباح في ردها على الحزب من جهة مفارقته للحياد بين أطراف الحرب وميله لـ “الدعم السريع”، فقالت “لماذا لم يبادر القائمون على حساب الحزب في ’فيسبوك‘ لتحقيق الحياد الإيجابي بالتبرؤ من اشتراكنا في فظائع ’الدعم السريع‘ في الجزيرة عبر الإدارة المكونة، وفيها بعض منسوبي التنظيم”، مستنكرة رفض مسؤولي الحساب نشر بيانها بذريعة عدم شرعية الاجتماعات التي انعقدت من أجله، وطعنت في حيدة الحزب بين الأطراف.
وتساءلت، “هل اقتضت البيانات الصادرة أخيراً حول قصف القوات المسلحة للفاشر، أو اعتقال الاستخبارات العسكرية لبعض الأحباب، أو التعليق على تصريحات كباشي (الفريق أول شمس الدين كباشي نائب القائد العام للقوات المسلحة) اجتماعات شرعية؟ ولماذا لم يبادر القائمون على الصفحة لتحقيق الحياد الإيجابي المطلوب بإصدار بيان لإدانة إطلاق ’الدعم السريع‘ النار على عضو المكتب السياسي الحبيب هشام عزازة، وهو يدافع عن أرضه بقرية العزازة، أو لإدانة الانتهاكات المروعة في ولاية الجزيرة عموماً، أو في الأقل التبرؤ من اشتراكنا في تلك الفظائع عبر الإدارة (الحكومة المدنية للدعم السريع) المكونة وفيها بعض منسوبي الحزب؟”.
وزادت بغير لبس قائلة إن بيانات الحزب الواردة في صفحته الموثقة تنتهك قراره برفض الحرب واتخاذ مسافة واحدة من طرفيها، وأنه ينبغي إحالة المسؤولين عنها للمساءلة الحزبية. وأضافت غير هيابة أن البيانات الصادرة عن الحزب لا تمثله وتلطخ وجهه بالسكوت عن انتهاكات طرف والتركيز فقط على انتهاكات الطرف الآخر، وأنه “سيأتي يوم الحساب عنها قريباً، وحتى حينها فإنني أتبرأ منها”.
ونقضت أمانة الحزب العامة في ردها على رباح شرعية صدور أي بيان عن مجلس التنسيق وهي على رأسه، فالمجلس، بحسب دستور الحزب في قولهم، قام للتنسيق بين مؤسساته (الرئاسة، المكتب السياسي، الأمانة العامة، رئيس هيئة الضبط، رئيس الهيئة المركزية ومقررها)، ومسؤوليته قاصرة على التنسيق بين الأجهزة واتخاذ القرارات الطارئة في غياب المكتب السياسي، ولا ينعقد المجلس، في قول أمانة الحزب، إلا بدعوة من رئيس الحزب وبحضور ممثلي المؤسسات، ولا سيما الرئيس والمكتب السياسي والأمانة العامة، وعليه فالاجتماعات الأخيرة لمجلس التنسيق، بحسب الأمانة العامة، غير شرعية لأنها لم تكن بدعوة من رئيس الحزب المكلف، ولم “تشارك فيها مؤسستا المكتب السياسي والأمانة العامة”، علاوة على أن المجلس غير مخول لإصدار أية بيانات من جهته، وبالتالي أرجأت الأمانة العامة نشر بيان التنسيقية رباح “لأنه لم يمر بالأطر المؤسسية لمزيد من التشاور ترسيخاً للعمل المؤسسي”.
ونفت الأمانة عن نفسها تهمة الانحياز لطرف دون آخر في الحرب بقولها “إن حديث رباح الصادق يجانب الواقع والحقائق المجردة، ولو أنها راجعت صفحة الحزب الرسمية لوجدت عدداً من البيانات التي تمت فيها إدانة انتهاكات ’الدعم السريع‘.”
وشددت أمانة الحزب على أن موقفه المعلن من الحرب ملزم للجميع، وهو عدم مساندة أي طرف، والتزام الحياد التام بين طرفيها. وفي قول صريح نبهت الأمانة العامة رباح بأن الأمين العام هو المتحدث الرسمي باسم الحزب “ولا يصدر أي بيان من دون موافقة الرئيس المكلف ورئيس المكتب السياسي”.
وسنتجاوز اشتباك قيادة الحزب مع قيادات ولائية حول اتهامات لها بالانحياز لـ “الدعم السريع” التي وصفتها القيادة العامة بأنها مكونة من منتحلين محرشين. ويكفينا هنا القول إنه بدخول أصوات من قواعد الحزب في النزاع بدا أن الخرق سيتسع على الراتق.
أما على مستوى المركز فقد انتهت مساعي الخير إلى اجتماع بين قيادة الحزب ومجلس التنسيق بين الثالث والسابع من مارس الماضي، ودار جدل حول خروج الحزب من “تقدم” أو تجميد عضويته فيها. وقال الأمين العام للحزب الواثق البرير إنهم تواضعوا على حل وسط وهو إعداد رؤية الحزب لإصلاح “تقدم” تأخذ بما تظلم منه مجلس التنسيق من دون الخروج من “قحت” أو التجميد. وزاد بأنهم إن لوحوا بالتجميد فهو مما أرادوا منه الإصلاح لا المغادرة.
وأعد الحزب رؤيته لإصلاح “تقدم”. والتقى وفد منه زعيمها عبدالله حمدوك في أديس أبابا لمناقشة تفاصيل تلك الرؤية الإصلاحية. وبعد ذكر إيجابيات “تقدم” إلى يومنا شكا الحزب من غلبة تمثيل المجتمع المدني (نقابات، لجان مقاومة، منظمات مجتمع مدني، شخصيات مستقلة) (70 في المئة) على الأحزاب والقوى السياسية والحركات المسلحة (30 في المئة). وبدا مما تبقى من الشكاوى في أداء “تقدم” صدى قوي من النقد الذي صوبته لجنة التنسيق وغيرها لقيادة الحزب. فأخذت رؤية الحزب على اتفاق أديس أبابا بين “تقدم” و”الدعم السريع” في الثاني من يناير الماضي مجانبته القواعد المعروفة في التوسط لحل النزاعات لأنها خلصت فيه إلى خريطة طريق مع “الدعم السريع” لما بعد الحرب، في حين وجب أن تقتصر على إيقافها لا غير. كما أخذ وفد الحزب على “تقدم” أن تعهدات “الدعم السريع” لها في أديس أبابا من قبيل إطلاق أسرى بطرفه لم تتحقق وحسب، بل وقع عكسها على الأرض. ونبهت الرؤية إلى شبهة انحياز إعلام “تقدم” إلى “الدعم السريع” من غير أن يسمي “الدعم” نصاً. وطالب “حزب الأمة” في خاتمة رؤيته “تقدم” بالحياد التام بين طرفي الحرب، وإعادة النظر في تمثيل الأحزاب التي غلبت عليها منظمات المجتمع المدني. وكان اشترط انتظار أسبوعين بعد تقديم رؤيته تلك لـ “تقدم” ليحدد بعدها دوره فيها. ومر الأسبوعان بلا طائل. وربما كانت هذه الرؤية مما يناقشه اجتماع لـ”تقدم” ينعقد ساعة كتابة هذه السطور في أديس أبابا. وها نحن نرى “حزب الأمة” يرحّل خلافاته إلى “تقدم” وإلى حين.
وهكذا لم يقتصر وصم انتهاكات “الدعم السريع” في ولاية الجزيرة على “الدعم” وحده، بل ضرب أيضاً دوائر سياسية اختارت، إن لم تكن آثرت بصورة أو أخرى، أن تقف على الحياد منه كما من الجيش. وهو كسب كبير. ولكن فرض “الدعم” بترويعه أهل القرى الآمنة في الجزيرة بنداً ساخناً في صراع التيارات في هذه الدوائر. فرأينا كيف زعزع صيت “الدعم” السريع السيئ في الجزيرة حزباً في هيبة “حزب الأمة” فوق جماعته التاريخية (الأنصار)، ليقتلع وتداً انتظر الناس أن يرسو بهم على بر من لجاج الحرب.
فهل صدقت كلمة ياسر عرمان بقوله إن “غزو ’الدعم السريع‘ للجزيرة كان مجازفة في المجهول، وكأنه بها “نصب لنفسه فخاً أو ابتلع فخاً نصبه خصومه من الفلول؟”.