دكتورة كوثر أحمد السجان
في الصراع المدمر الذي يشهده السودان منذ 15 أبريل 2023 – برزت الإمارات العربية المتحدة كأحد أبرز الدول التي تلعب دوراً خلف الكواليس في تأجيج النزاع، بدعم ملشيات الدعم السريع سياسياً ومالياً وعسكرياً، بهدف تعزيز نفوذها في السودان و المنطقة. ومع تراكم التقارير الدولية التي تكشف أدواراً مختلفة للشبكات المرتبطة بأبوظبي، أصبح واضحاً أن الدور الإماراتي هو أحد أبرز العوامل التي أثرت على ميزان القوى وإطالة أمد الحرب في السودان.
إذا نظرنا إلى خلفية النفوذ الإماراتي في السودان نرصد عدة دوافع لتوسعها في السودان :
1- الموقع الجغرافي الاستراتيجي للسودان على البحر الأحمر وعلى بوابة أفريقيا، وهو ما جعله جزءاً من التنافس الدولي على المؤاني والممرات البحرية بين الولايات المتحدة وأوروبا والصين وتركيا ودول الخليج.
2- ثرواته الطبيعية (خاصة الذهب والمعادن الاستراتيجية الأخرى) التي أصبحت محوراً للنزاع.
3- الفراغ المؤسسي والحكومي في السودان الذي يسهل اختراقه أو التأثير عليه عبر وكلاء محليين أو قوى مسلحة (مثل مليشيات الدعم السريع)، خاصة بعد إنهيار مؤسسات الحكم عقب الثورة الشعبية 2019م.
4- رغبة الإمارات في تشكيل دور إقليمي نافذ في أفريقيا وخارج الخليج وهو ما ينسجم مع سياسة “الاستثمار العميق” والانتشار الاقليمي ، وخلق نفوذ غير رسمي عبر شبكات اقتصادية وأمنية . وقد رأت في الدعم السريع حليفاً قابلاً لتأمين مصالحها .
يمكن تلخيص طبيعة العلاقات الإماراتية – السودانية في أن الإمارات أصبحت منذ سنوات مستورداً رئيسياً للذهب السوداني، وأشارت تقارير عديدة إلى أن نسبة كبيرة من ذهب السودان تهرب إلى الإمارات عبر شبكات غير رسمية. كما أن هناك علاقات تجارية و إستثمارات غير مباشرة تتم عبر وسطاء وتحالفات تعدين، ما جعل الاقتصاد السوداني مكشوفاً أمام شبكات تهريب الذهب المرتبطة بالعواصم الخليجية.
تعددت أساليب التدخل الإماراتي في الصراع السوداني عبر :-
– الدعم المالي والتجاري خصوصا من خلال الذهب المستخرج الذي يهرب للإمارات والذي يشكل مصدر تمويل مباشر للصراع . هذا الارتباط بين الذهب وشبكات التمويل صنع علاقة معقدة بين الاقتصاد غير الرسمي والحرب.
– تجنيد مرتزقة دوليين (مثل مجموعات كولومبيا وغيرها) ، وربطهم بشبكات تعمل في بؤر صراع متعددة من بينها السودان، وبالتالي خلق قوة مقاتلة مستأجرة يمكن تدويرها لخدمة صراعات مختلفة.
– الدعم العسكري واللوجستي والذي أظهرته تقارير استخباراتية مختلفة، تحدثت عن إرسال أسلحة جواً إلى دارفور ، نقاط إنطلاقها في الخليج وأفريقيا عبر شبكة من الموانئ والمطارات.
– السيطرة على مسارات لوجستية تستخدم فيها الإمارات شبكتها في الخليج وأفريقيا لايصال العتاد والدعم اللوجستي.
– التأثير السياسي عبر وكلاء محليين من أحزاب سياسية و رجال أعمال ومجموعات مصالح ما خلق شبكة نفوذ منافسة للسلطة الرسمية في السودان .
وبالتالي نجد أن تدخل الإمارات عبر وكلاء وتحالفات بهذه الكيفية و الأساليب يغير طبيعة علاقة الإمارات بالسودان من داعم إستثماري إلى طرف مؤثر في الصراع، خاصة بعد تصاعد الأدلة والتقارير الدولية التي فضحت الدور الإماراتي في دعم طرف متهم بجرائم حرب وإبادة جماعية.
وقد ساهم حراك السودان الدبلوماسي والقانوني تجاه هذا النفوذ في تحقيق ثمار تدريجية، عبر:
كشف الدعم الأجنبي للدعم السريع في مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي.
جمع أدلة رسمية يمكن رفعها في المحاكم الدولية.
– تغيير المزاج الدولي حيث بدأت قوى غربية وإقليمية تعيد النظر في الدور الإماراتي، خاصة مع تزايد التقارير التي تربطه بالانتهاكات.
مع تواصل الأدلة و التقارير الدولية من مختلف الجهات والمنصات الدولية يشهد النفوذ الإماراتي تآكلاً تدريجياً في الشرعية الأخلاقية والدبلوماسية، ويزداد الضغط عليها دوليا، فملف السودان الآن بات ورقة بيد خصوم الإمارات لاتهامها بأنها لاعب يزعزع الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، ما يضعها في موقف دفاعي ويقلل من وضعها كفاعل نشط.
كما أن الارتباط بتدخلات عسكرية في دولة أفريقية منكوبة (السودان) ، وارتباط ذلك بالسجلات الحقوقية والانتهاكات، يؤدي إلى تراجع الثقة السياسية والاقتصادية للدول الأفريقية في أبوظبي، وتراجع حماس المستثمرين الدوليين للتعاون معها، لأن سمعتها كمركز للاستثمار قد تُربط بدعم الصراعات والمليشيات.
أما على المستوى الدولي، فإن استمرار التحقيقات والمراقبة الإعلامية قد يؤدي إلى ظهور مزيد من الأدلة الدامغة التي تربط الإمارات بدعم مليشيات الدعم السريع، مما يفتح الباب أمام عقوبات وإجراءات دولية، سواء من الكونغرس الأمريكي أو الاتحاد الأوروبي أو المحاكم الدولية. وتشمل هذه الإجراءات المحتملة:
تقييد مبيعات السلاح للإمارات.
فرض قيود تجارية ومالية.
تجميد استثمارات أو أصول.
فتح ملفات جنائية تخص دعم جرائم حرب .
ومع تشدّد الولايات المتحدة وأوروبا في ملفات الاستقرار وحقوق الإنسان، يصبح الملف السوداني أداة يمكن استخدامها للضغط السياسي على الإمارات وانتزاع تنازلات في مجالات مختلفة (العسكرية، التجارية، التكنولوجية). وهكذا يتحول الدور الإماراتي في السودان من محاولة بناء نفوذ إلى مشروع مخاطرة استراتيجية.
تجربة السودان في مواجهة التدخّل الإماراتي تمثّل تحوّلاً جوهرياً في فهم النفوذ الخارجي في القرن الإفريقي وعلى بوّابة الشرق الأوسط. فالسودان اليوم ليس فقط دولة منكوبة بصراع داخلي، بل أصبح “مسرحاً” قد يشهد نهايةً استراتيجية لنموذج النفوذ الإماراتي غير الرسمي إذا استمرت الضغوط الدولية والاقليمية.
وإذا لم تُغيّر الإمارات نهجها وتُعيد ضبط علاقتها بالسودان – من دعم ميليشيات إلى شراكة دولة لدولة – فإنها قد تدفع أثماناً لم تكن في الحسبان: من تراجع النفوذ إلى عزلة دبلوماسية إلى تجفيف مصادر استثماراتها، وربما دخولها الى دائرة المساءلة الدولية.
وهكذا يتحول ملف السودان من فرصة للنفوذ إلى عبء استراتيجي على السياسة الخارجية الإماراتية.
