نسرين النمر
في خضمّ الضجيج الذي يملأ الساحة السودانية الإعلامية والوسائط المختلفة بسيل مِن الأخبار المضللة والمدفوعة والحقائق المزيّفة، وجدت نفسي مدفوعةً إلى كتابة مقالات مطوّلة، وتدوينات مُتتابعة، ومنشورات أسعى مِن خلالها إلى تفكيك هذا المشهد المضطرب وترتيب المتناثر مِن الأحداث والمواقف، المعلن منها وما يُحاك سرًّا خلف أبواب مغلقة.
حقائق بدت في لحظتها الأولى صادمة، بل أقرب إلى ما لا يُصدَّق، غير أن التمحيص الدقيق والمتابعة بمثابرة وصبر، والتواصل والاستنطاق اللذين شملا قادةً من مختلف القوى والمكوّنات، وحزبيين متنفذين، وآخرين ممّن لعبوا أدوارًا محوريةً في لحظات حرجة من تاريخ هذا الوطن الجريح، ودبلوماسيين عربًا وغربيين عاصروا التفاصيل بصمت دبلوماسي، لا يتكلّم إلا عند لحظة الحقيقة.. كل ذلك كشف لي ما لم يكن باديًا في الواجهة، ورسم صورة أوضح لمشهدٍ كان يخفي أكثر ممّا يُعلن. روايات كثيرة ما زال شهودها أحياء..
وانتهى بي الأمر إلى حقيقتين أكيدتين:
– أن تحالفَي صمود وتأسيس صُنِعَا بأيدي الكفيل (دولة الإمارات العربية المتحدة) في إطار خطته الأكبر، ولم تنقسم لخلاف موضوعي في الرؤى أو المواقف، ولا حتى في اختيار من يبقى من القيادات في صمود ومن يرحل إلى تأسيس، ومن يقود ومن يُستبعد، فقد واصلت أبو ظبي تحكمها ورغبتها في إعادة هندسة المشهد السياسي الداخلي والذي بدأته قبل سقوط نظام الإنقاذ، واستكملت فصوله بعد اندلاع الثورة إلى الآن.
تحالفات لا تعدو كونها أدوات تمّ التحكم في قادتها لتلعب أدوارًا ثانوية مُؤقّتة في لعبة أعقد مما يظهر في العلن الآن.
تخرجهم أبو ظبي متى شاءت، وآخر ما أمرت به ما سمي (بورشة نيروبي) المموّلة بالكامل مِن مال قاتل الأطفال السودانيين ومستبيح أعراض النساء في عموم السودان، وبإشراف مباشر من د. عبد الله حمدوك، المكان الذي تم فيه (تكويم) كل من ارتضى بيع الوطن عند أبو ظبي وقبض الثمن، ليتواروا خجلًا مِن اشتراك التعايشي وإبراهيم الميرغني علنًا وبقية مجموعة تأسيس تحت ذريعة (خليكم بعيدين ما تظهروا في القاعات لأننا ما ناقصين، لكن هنعتبركم مشاركين وحقكم محفوظ)، لتنتهي هذه المهزلة بمجموعة استقالات، تعصف بجسد التجمع الانشطاري المهترئ.
– حين ينجلي غبار هذه المعركة، سيبدأ غبار آخر في الانقشاع.. غبار الأقنعة التي تساقطت والوجوه التي ستظهر على حقيقتها، والولاءات التي كانت تستر عجزًا أكثر مما تعبّر عن موقف.
أما داخليًّا فإن حالة الفرز السياسي لم تكتمل بعد، والاصطفاف لصالح الوطن أو ضده لم يستقر، (وربما كان هذا على قسوته أحد أهم أسباب تأخُّر الحسم)، فحين تتداخل الخطوط، وتتقاطع المصالح، وتضيع البوصلة بين الطامحين والمرتهنين والمتسلّقين، وبعض الخونة، يُصبح كشف الحقيقة خطوةً لا تقلُّ أهميةً عن الحسم ذاته.
ويحضرني السؤال التاريخي البسيط والإجابة الأبلغ:
ماذا قدّمت لشعبك؟
“الوعي.. بقدر ما استطعت..
حقائق مِن شهادات متناثرة:
٠ لا يستغرب القارئ العزيز حين أقول إننا نظلم (الإمارات)، فالحقيقة هي أن نظام أبو ظبي ومحمد بن زايد بشرّه وغروره، مُحدَث الدبلوماسية، تحدث عن شخصيته السيكوباتية، ورغبته المجنونة في تنفيذ مشروعه وحلمه (إمبراطورية الموانئ الكبرى)، فهنالك صراع داخل العائلة الحاكمة في أبو ظبي سبق الحرب بزمن ليس بالقصير حول ملف السودان وما زال، وصراع البحر الأحمر..
وسآتي إلى هذا الملف لاحقًا بالتفصيل (أبو ظبي.. اللعبة الكبرى).
دبلوماسي آخر قال إنه نصح القيادة في السودان بالجلوس والتفاوض مع الإمارات، ومعرفة ماذا تريد إن أرادت إيقاف الحرب، وأن تختصر الطريق بدلًا من الجلوس مع (الجنجويد) أو تحالف حمدوك السياسي، فكلاهما بيد أبو ظبي، ومازَح قائلًا (أنتم تعلمون من هم الجنجويد الحقيقيون). ليأتيه ردّ ساخر بأنهم يُفضّلون الجلوس مع مشغلي (جنجويد الجنجويد).
الحزبان الكبيران.. التلاعب بالجميع دون ذكاء
هناك قصّة معروفة لدى عدد كبير ممن هم موجودون الآن في المشهد السياسي (أن في أول اجتماعات السفير الأمريكي السابق لدى السودان جون جودفري، التأم اجتماع ضمّ مولي في مساعدة وزير الخارجية للشؤون الإفريقية وأحد الدبلوماسيين الكبار المقرّب من رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وأحد المستشارين، حيث تحدّثت صراحة السيدة مولي عن الخلاف الذي يضرب حزب الأمة، وأنه جوهري، وأنهم لا يفضلون أيا من القيادات الحالية ويفضلون التعامل مع السيد الواثق البرير دون سواه. (والواثق على علم بذلك) (هسه مطموسين الأمريكان أم مطموس نسيب الجماعة ديل).
ولم تنس التعريض بمواقف الأبناء الثلاث (عبد الرحمن، صديق، مريم)، وبعض السخرية من (الصغير بشرى) كما سمته.
أما اليوم، فأحد القادة الكبار بالحزب أفشى سرًّا عن اتفاقية (gentlemen agreement ) تمت بين الأجنحة المتناحرة والتي اتفقوا فيها على إيقاف الحرب الكلامية ما بين أجنحة الحزب التي تتوزع ما بين (الداخل، صمود، تأسيس)، بقولهم (نحن ما خسرانين موجودين هنا وهناك وهناك)، فالمصالح لا تتقاطع، بل ستتعاظم عند أول مائدة حوار. ومِن وقتها، لم يسمع لهم أحد صوت نشاذ أو صوتًا حتى..
رحم الله الإمام الصادق..
الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل تكاد لا تستبين له موقفًا أو تلمس له خطًّا، بلا رؤية أو تأثير، تتنازعه هو الآخر صراعات الأجنحة المقعدة وإن أخفوها.
تقزّم الحزب التاريخيّ بضعف قيادته التي لم تعد تقود.
كما لا تستطيع أن تستبين حالة حزب المؤتمر السوداني الذي تجتهد جزء من قيادته في التواصل مع الداخل وتبرير المواقف (بشكل متصل)، وتنغمس أخرى في براثن أبو ظبي، وقد استأثرت سرًّا بمال الكفيل الوفير، وأخرى لا تعلم ما يجري هنا وهناك..
٠ يكفيني مقولة أحد القيادات العليمة وأنا أستبين المواقف للقوى والأحزاب السياسية عندما سألته عن شأن التجمع الاتحادي، قائلًا (إنه ليس حزبًا، بل مجموعة مِن الأشخاص تم تجميعهم إبان نظام الإنقاذ السابق، أدوا دورًا وظيفيًّا في فترة الثورة لوزن الحالة السياسية الداخلية حينها).
ولم يكن ساخرًا حين قال (لو تم تفكيك التجمع إلى عوامله الأولية ما بقي من التجمع الاتحادي إلا شخص أو اثنان على الأغلب)!
على حد وصف مُحدّثي السياسي.
٠ لم أستطع تحمّل محدثي الذي كان مُقرّبًا لقائد الميليشيا حميدتي حينما كال الاتهامات للقوى السياسية السودانية، ذاكرًا أن أولى محاولات تدجين قوات الدعم السريع نظّر لها السيد على الريح السنهوري فيما سماها القوى العربية الباطشة، ولا أنكر مفاجأتي حين أفصح عن اجتماع للانقلاب على حكومة السيد حمدوك الأولى، حيث تم الطلب بشكل مباشر من قائد الميليشيا التدخل وحسم المعركة الآن وفي وقت باكر، وأنهم سيساندون هذا التحرك من داخل الجيش وخارجه.
وحين شككت في حديثه أجاب باختصار (لديك السيد حمدوك، الذي أبلغه قائد الميليشيا بنفسه بالأمر، بعد أن علم بأن الاستخبارات العسكرية قد رصدت الاجتماع، وربما ما دار فيه)!
وللمفارقة هو ذات الحزب الذي تآمر عليه حلفاؤه من أجل دفعه للخروج من تحالف الحرية والتغيير تنفيذًا لأوامر أبو ظبي، وما زال الفاعلون على رأس صمود اليوم!
الداخل فَرْزٌ لم يكتمل وفصول لم تنتهِ كتابتها بعدُ، وسيحتاج إلى كثير من الكتابة والتحليل، وإن غدًا لناظره قريب..
