علي عسكوري
*كانت كل الوقائع والمعطيات التى واجه بها الجيش السودانى غدر المليشيا به في الايام الاولى، تشير بل تكاد تؤكد ان الجيش لا قبل له بصد الهجوم عليه وانما هى مسألة وقت وتقع الهزيمة وينصب قائد المليشيا نفسه رئيسا للبلاد ويشكل القحاتة (وقتها-تقدم لاحقا) حكومة تنفيذية تعمل تحت امرته
*لا دبابات تعمل، لا جنود مشاة، لا ذخيرة او عتاد يعتمد عليه، الطائرات الموجودة لم تتم صيانتها لسنوات وتنعدم قطع غيارها وفعاليتها محدودة جدا. باختصار، من واقع المعطيات الموضوعية- وحسب المنطق العسكري – لاشىء سيمكن الجيش من الصمود في وجه قوة عسكرية ضخمة اعدت عدتها ورتبت خططها لذلك اليوم وحسبت حساباتها وما ابقت! هجمات متزامنة على قيادة الجيش، المدرعات، القصر، المهندسين، الاستراتيجية، الاشارة، الاذاعة والتلفزيون، السلاح الطبي، قاعدة وادى سيدنا، حامية جبل اولياء، باختصار في لحظة واحدة اصبحت جميع مواقع الجيش تحت الهجوم المباغت الضاري بنيران كثيفة جدا.
*حسبت المليشيا وداعموها كل شىء، لم يبقوا لا شاردة ولا واردة وتاكدوا ان الامر سيكون بمثابة مباراة في كرة القدم بين البرازيل وجزر المالديف!
هكذا، اعتقدوا ان الامر نزهة وما هى الا ساعات وسيستتب الامر لهم (ويادار ما دخلك شر)
*وهم في حساباتهم المادية تلك، نسوا اهم عامل واهم ميزة طبيعية و جوهرية للجندى السودانى، وهى شجاعته، و فدائيتة وجسارته، وبسالتة، وصموده وعزيمتة وتصميمه، وانه لا ينكسر ولا يقبل بالهزيمة بصرف النظر عن المعطيات والظروف التى يقاتل تحتها. تلك القيم التى لا يمكن حسابها (ككم) سقطت من بين ترتيباتهم، فكانت هي التى اسقطت مغامرتهم الخاسرة. لا تعلم المليشيا ولا المتآمرين معها ان شرف الجيش السودانى فوق الثريا والسماك الاعزل. هنا السودان، هنا الخرطوم، هنا الشرف الباذخ، لا نقر لاحد بتفوق علينا والما عاجبه (يركب اعلى خيله)
*كان اسوء ما فعله النظام البائد هو تدمير الجيش وحرمانه من العتاد والسلاح وتشريد ضباطه وجنوده الاكفاء و محاولة استبداله بمليشيا مجنونة لحمايته رغم رفض الجيش لها, هكذا، تم اضعاف الجيش وافقاره, كان البشير مهتما بحضور المباراة النهائية لكاس العالم في موسكو بينما جيشه يفتقد ابسط العتاد. لقد انتهي به تفكيره الى حماية نظامه فقط وليس حماية السودان. ولتحقيق ذلك، اسس المليشيا واغدق عليها، حارما الجيش من موارد كان يجب ان تذهب له, ترعرعت المليشيا وشبت وقوى عودها تحت كنف البشير، ثم انقلبت عليه والتحقت بالقوى الساعيه لاسقاط نظامه، ثم تمددت في احلامها وقررت الانفراد بالبلاد لوحدها، ولم تدرك ان ذلك سيكون مقتلها.
*مثل ملايين غيري، لم اشك للحظة عند بدء القتال ان الجيش سينتصر، بصرف النظر عن المعطيات الموضوعية من عتاد وغيره. فضباط وجنود الجيش ثم قوات جهاز الامن، ثم لاحقا المشتركة والمستنفرين، هم ابناء الشعب السودانى، والشعب السودانى لا ينكسر ولا ينهزم مطلقا بصرف النظر عن قوة من يقاتله. جهل من خططوا للمليشيا تمردها بتلك الحقيقة عن طبيعة الشعب السودانى ورباطة جأشه وقوة شكيمته وصلابه معدنه، هي ما تسبب في تهاوى غزوهم ودحره.
*ذكرت في اكثر من مقال سابق ان للجيش هدفين في هذه الحرب. اولاهما تأدية واجبه الاساسي في حماية البلاد والدفاع عن سيادتها، وثانيهما استعادة شرفه المهني كجيش حاولت مليشيا منبتة ان تدنسه، بعد ان تطاولت عليه واعتقدت ان بوسعها هزيمته في عاصمته ومن ثم حله لتحل محله. ذكرت ايضا ان الشعب بكل مكوناته يقاتل مع الجيش للدفاع عن البلاد وسيادتها، اما معركة الجيش المهنية وتاديب المليشيا التى حاولت طعن الجيش في مهنيته والنيل منها فذلك امر يخص الجيش وحده لا احد يعلم تفاصيله. فعندما تتجراء وتجرح الاسد وتفشل في قتله، عليك ان تتوقع الاسوء, الاسد فقط من يحدد كيف سيكون الاسوء وما هو فاعل بك عندما يتمكن منك. الآن نقترب كثيرا من تحقيق الهدف الاول، اما الهدف الثانى فهو امر يخص قيادة الجيش وضباطه وجنوده، لا احد يعلمه، لكن ما نعلمه هو ان دماء رفاقهم الذين استشهدوا بينهم لن تذهب سدا، ذلك هو شرف الجندية ورفقة السلاح.
*والآن، والأسد الجريح يعود إلى عرينه وإلى عاصمته، لا شك عندى إن اغلب إن لم يكن كل قادة جيوش العالم، خاصة في الغرب وافريقيا، واجهزة المخابرات والخبراء العسكريون من كل حدب وصوب يتابعون ويحللون المعجزة التى حققها الجيش السودانى! لست خبيرا عسكريا ولا افهم في علومها، ولكن من واقع المعلومات التى توفرت لى عن معطيات الاوضاع عند الجيش وعند المليشيا قبل الحرب، فإنى على ثقة ان ما حققه الجيش معجزة بكل المقاييس. المعجزة عندى ليست في الانتصارات التى حققها الجيش مؤخرا، انما المعجزة في قدرة الجيش على امتصاص الصدمات والهجومات الكاسحة في الايام الاولى للحرب وبقائه متماسكا قيادة وجنودا! وكما تابعنا، فإن ما وقع من هجمات في الايام الاولى كان كافيا لتفكيك اى منظومة عسكرية، بعد شل حركتها وتقطيع اوصالها وعزل وحداتها عن بعضها البعض وقطع خطوط امدادها لشهور، رغم كل ذلك بقيت وحدات الجيش صامدة تقاتل ببسالة وصمود ليس له مثيل في التاريخ.
*لقد حق لجيشنا ان يفتخر ويزهو ويتبختر تيها بما حقق من معجزة في حرب شعواء لم تبق ولم تذر استهدفت البلاد بكاملها وخربت عاصمتها خرابا يشابه خراب الرومان لقرطاج او خراب المغول لبخارا. والمدينتان هزموا واستباحهم الجيش الغازى وذبح مواطنيهم بلا رحمة، اما في حالتنا فقد صمد جيشنا رغم الخراب والنهب واسع النطاق، كما ان اغلب سكان العاصمة قد نجو، وهو امر يستوجب الوقوف عنده، اذ كيف نجت كل تلك الملايين من مذابح تتر الالفية الثالثة.
*إن أسوء ما فينا كأمة هو ضعف اهتمامنا بالتوثيق. والآن وقد شارف القتال على نهايته، جاء وقت التوثيق والكتابة. ولذلك يتوجب على قيادة الجيش تكليف القادرين من الضباط للنهوض بعملية التوثيق والكتابة، او استنهاض اساتذة الجامعات وغيرهم من المؤرخين والكتاب لتسجيل وكتابة كل تلك البطولات. هنالك الكثير الذى يستحق التوثيق وهذا امر مهم للاجيال القادمة وللعالم, يجب علينا ان نوثق بكل لغات العالم الحية حتى يعلم العالم وتعلم الاجيال القادمة حجم التضحيات التى قدمها اسلافهم دفاعا عن الوطن. هنالك معارك في المدرعات، المهندسين، الاشارة، المصفاة، جبل موية، سنجة، مدنى، الفاشر، بابنوسة الابيض، وغيرها من المناطق، كلها تستحق التوثيق.
*إن الأمر ليس قضية توثيق للتاريخ فقط، بل هو حق الشهداء علينا حتى لا يطوى تضحياتهم النسيان! فبدون تضحيات اولئك الشهداء لن تكن لنا ارض او وطن ولذهبت ريحنا للابد. من استشهدوا هم من ابقوا علمنا خفاقا بين شعوب الارض، ويجب تذكرهم كلما عزف نشيد العلم.
*التوثيق مهم ايضا لذاكرة المؤسسة (الجيش) فإن نسيت المؤسسة ذاكرتها تفقد عراقتها ويتضاءل حجم انجازاتها وتاريخها، ويجهل الملتحقين بها بطولات من سبقوهم.
*ختاما، حق لجيشنا ان يفخر ويتباهي ولشعبنا ان يفرح، فنحن حقيقة امة تولد من جديد معمدة بدماء شهدائها
هذه الأرض لنا
نقلا عن “أصداء سودانية”