بروف أحمد مجذوب أحمد
تابع الجميع القرارت المرتجلة التي اتخذتها دولة الإمارات بإيقاف حركة النقل الجوي والبحري من وإلى السودان ، وهى تظن أنها قد خنقت الاقتصاد السودانى بهذا الفعل، ونسيت أن للسودان تجربة طويلة فى الحصار والمقاطعة الاقتصادية امتدّت من عام 1983 وحتى الآن ،أعلنتها وتبنتها الولايات المتحدة الأمريكية، سيدة العالم وقتها، وعندما كان العالم يُحكم بنظام مالي أحادي، مركزه في الولايات المتحدة الأميركية، ورغم ذلك فقد مضت مسيرة التنمية والتطور فى السودان بشهادة المؤسسات الاقتصادية الدولية التى نشأت وترعرعت تحت كنفها، خاصة خلال الفترة من 1995 حتى 2012 .
رغم ذلك أصبح السودان دولة منتجة للنفط ومُصدرة للعديد من السلع، وتمددت بنيته التحتية وزادت قدراته الانتاجية وتوسعت مؤسساته الخدمية وزاد ناتجه القومي وتحسن متوسط دخل الفرد فيه.
أمَا وقد تغيرت الآن معطيات العالم وبدأ يظهر نظام مالي عالمي موازٍ ، وتفككت أسطورة القطب الواحد وظهرت تكتلات اقتصادية قوية، وبدأ تطبيق نظام مدفوعات عالمي برعاية جمهورية الصين ، فإن الحديث عن مقاطعة السودان وحصاره اقتصادياً لم تعد تتصف بذات الجدوى ، عندما أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية، دعك من مقاطعة تعلنها ربيبتها التي لا تساوي شيئا فى الاقتصاد العالمى.
معلوم أن السودان دولة تنتج وتصدر سلع استراتيجية وعليها طلب عالمي، مثل الذهب وبعض المعادن الأخرى، وقائمة من المنتجات الغذائية الأخرى مثل (الصمغ ، السمسم ، الفول السوداني ، الذرة ، والقمح ، القطن ، الثروة الحيوانيّة ومشتقاتها والسمكية … إلخ) ويتمتع بموارد كبيرة ومتنوعة هى سبب هذا الصراع الذي يجري للاستئثار بموارده.
ويستورد السودان سلعاً أهمها: سد فجوة المشتقات النفطية، والمعدات والتجهيزات الرأسمالية، وبعض الأدوية والسلع الكمالية الأخرى، والكل يعلم أن الإمارات ليست هي المنتج لواردات السودان ، إلا قليلا من النفط الذي فى الغالب يحكم بعقود بيع طويلة الأجل لاتجعل احتياج السودان ضمن قوائم المشترين له. ولم يتجاوز دورها فيه سوى فتح الاعتمادات أو تعزيزها بعلاقات مصرفية تتم وفقا لقواعد العمل المالي، ليس فيها هبة أو مساعدة.
عليه فإن دور الإمارات لا يتجاوز أنها مركز وساطة تجاري ومالي ولوجستي ، والذى يجعل من بلده هكذا يجعل اقتصاده معتمداً على إيرادات هذه الخدمات، وبالتالي فهي المستفيد من مهمة الوساطة أكثر من استفادة عملائها.
فدور الوساطة الذي ظلت تقدمه الإمارات، كان يتم في غالبه عبر شركات سودانية اتخذت من هناك مقرًا لها ، للاستفادة من التسهيلات والميزات المتاحة للجميع ، أو للاستفادة من خدمات النقل والمناولة عبر موانيء الإمارات ، وهذه الخدمات متاحة فى أكثر من مركز تجاري عالمي . فالإمارات ليست دولة جارة للسودان أو لها حدود معه، وهي تحصل على دخل من كل الأنشطة التى تتم داخل أراضيها لصالح السودان.
وفى ظل المنافسة العالمية لجذب الأنشطة الاقتصادية والمالية واللوجستية، بما تحققه للدول من خلق فرص عمل وزيادة مستوى التشغيل والدخل ، فإن هذه الخدمات ستبقى متاحة فى العديد من الدول، مثل المملكة العربية السعودية وتركيا وجمهورية مصر ، وغيرها من الدول، فقط تحتاج الحكومات لمراجعة وتنشيط وتفعيل الاتفاقات التجارية والمالية واللوجستية ، مع العلم أن بعضها كان قائما ولكنه ضعف بتحول جزء منه للإمارات وعودته لا تحتاج سوى مباشرة النشاط، فهذا التعاون ظل قائماً بين السودان والمملكة منذ زمن طويل، والمملكة أكثر قرباً للسودان وأقل تكلفة في النقل وأكثر التزاما بالنظم والقوانين الدولية. وإذا أضفنا لذلك أن نظم تسجيل الشركات وممارسة النشاط الاقتصادي أصبحت أكثر مرونة فى المملكة وأسرع وأقوى في نظم الشفافية .وصعدت المملكة بحسن إدارتها لتصنف الدولة الثانية عالمياً فى التقنية المالية ، إن لم تكن الأولى.
إن السودان سيكسب كثيراً بقرارات هذه الدولة، وأول مصادر الكسب ؛ هو عودة كل صادرات ذهبه للقنوات الرسمية ، لأن المهربين لن يجدوا ما كان متاحاً لهم من فوضى قبل ذلك فى حماية صادرات الذهب المهرب، وهذا يعني عودة مالا يقل عن 1.8 مليار دولار للقنوات الرسمية، حيث قدرت الأمم المتحدة قيمة الذهب المهرب من السودان بمبلغ يتراوح بين 1.8 مليار و3 مليار دولار سنوياً، بحيث لن يجد المهربون نظماً تحمى التهريب كما ظل متاحاً لهم من قبل.
وهى فرصة لاستكمال سلسلة الإنتاج بتركيب مصفاة الذهب ، التي ستحقق عوائد كبيرة كانت غائبة فى ظل أوضاع أراد لها المنتفعون أن تستمر الأمور على ما هى عليه.
إن استعجال الأجهزة الحكومية المختصة فى تنشيط وتفعيل العلاقات التجارية والمالية واللوجستية بين القطاع الخاص والجهاز المصرفي فى الدول البديلة هى الخطوة الأولى، حيث يتعين على الحكومة تبني سياسة تنويع مراكز النشاط الاقتصادي والمالي مع عدة دول ، لتكون المبدأ الحاكم لتطوير العلاقات الدولية، خاصة الدول التي بادرت بالتواصل مع السودان مثل : تركيا التي سارعت بفتح فرعين لأهم مصارفها فى السودان، وإعلان استعدادها للتعاون فى مرحلة الإعمار ، فى توجه للحكومة التركية يتجاوز العمل المؤقت لسد الثغرات الآنية، إلى توجه لبناء علاقات استراتيجية مع السودان، وينبغي على السودان أن يتجاوب مع هذا التحول بما يناسبه، خاصة وأن تركيا أصبحت ضمن الاقتصاديات الكبرى.
إن تطوير وتنظيم النشاط التجاري مع مصر هو أحد سبل مواجهة التحدي الماثل ولكنه يحتاج لضوابط دقيقة ومحكمة ، لتعظيم الانتفاع للدولتين ، بحيث يتم إيقاف نشاط التهريب الذى توسع خلال فترة الحرب وانعدام الأمن وضعف إمساك الدولة بأطرافها.
ويتزامن مع هذه الاجراءات العاجلة، ضرورة مواصلة جهود السودان التي بدأها منذ العام 2007 للانضمام لمجموعة البريكس (BRICS ) التى قادتها وزارة المالية والاقتصاد الوطني، ليس استجابة للظرف الطارئة وإنما قراءة لتوجهات الاقتصاد العالمي الذي بدأت ملامحه في التشكل.
ويسبق كل ذلك إصلاح لسياسات التجارة الخارجية بما يرشد الاستهلاك ويعظم الانتفاع بعوائد الصادرات، وسياسات إنتاج داعمة لتأهيل القطاع الانتاجي لتقوية قدراته لتحقيق الاكتفاء وزيادة الصادرات ، مما يعني مراجعة السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية. لتحقق الاسناد المطلوب فى هذه المرحلة.
