رأي

تحليل Jamestown وفهلوة الإلهاء

د. ياسر محجوب الحسين

في خضم الحرب المفروضة في السودان التي أعتبرت على نطاق دولي من أكثر النزاعات دموية وتعقيدا في المنطقة خلال العقد الأخير، يلفت الانتباه صدور تقرير مطوّل عن دورية Terrorism Monitor التابعة لمؤسسة Jamestown Foundation الأمريكية، يركّز على صعود قائد لواء البراء بن مالك، ويقدّم هذا الصعود بوصفه مدخلا رئيسيا لفهم الصراع في السودان. Jamestown Foundation هي مؤسسة بحثية مقرها واشنطن العاصمة، تأسست في ثمانينيات القرن الماضي، وتُعرف بقربها من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، وبتخصّصها في قضايا الأمن، والإرهاب، والصراعات في المناطق التي تُعد ذات أهمية استراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية. ومن هذا الموقع، فإن ما تختاره المؤسسة موضوعا للتحليل، وكيفية تأطيره، لا يخلو من دلالات سياسية ومعرفية.
المشكلة الأساسية في التقرير ليست في تناوله لظاهرة بعينها، بل في اختياره زاوية انصرافية تُبعد النقاش عن جوهر المأساة في السودان. ففي وقت تتوالى فيه التقارير الأممية والدولية التي توثق ارتكاب مليشيا الدعم السريع لجرائم ترقى إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاغتصاب والتهجير القسري، لا سيما في دارفور، يوجّه التقرير تركيزه نحو “خطر عودة الإسلاميين” ويقدّمه كإطار تفسيري شبه مركزي للحرب. هذا الاختيار لا يعكس ترتيبا موضوعيا للأولويات، بقدر ما يعكس إعادة توجيه للضوء بعيدا عن الفاعل الرئيسي في العنف المنهجي الجاري.
يعتمد التقرير بشكل واضح على سردية تروّج لها قيادة مليشيا الدعم السريع وواجهتها السياسية، مفادها أن الإسلاميين هم من أشعلوا الحرب سعيا للعودة إلى السلطة. هذه الرواية تُنقل في التقرير دون إخضاعها لتمحيص نقدي كافٍ، رغم أنها صادرة عن طرف متهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كما يتجاهل التقرير حقيقة أساسية مفادها أن الإسلاميين فقدوا السلطة منذ أبريل 2019، ولم يكونوا أصحاب القرار في الدولة أو الجيش عند اندلاع الحرب في أبريل 2023، التي بدأت بتمرد عسكري صريح من قبل قوات الدعم السريع على الدولة السودانية.
إحدى الإشكاليات التحليلية البارزة في التقرير هي الخلط بين الهوية الأيديولوجية والمشاركة القتالية. فوجود إسلاميين ضمن القوى المساندة للجيش يُقدَّم بوصفه دليلا على مشروع سياسي منظّم لإعادة إنتاج الحكم السابق، بينما يتجاهل السياق الأوسع الذي شهد تعبئة شعبية واسعة شملت طيفا متنوعا من السودانيين، من حركات دارفور المسلحة إلى تنظيمات أهلية ومحلية، وجميعها انخرطت في القتال بدافع مقاومة مليشيا مسلحة تهدد وجود الدولة نفسها. كما يتغافل التقرير عن أن الإسلاميين، كغيرهم من مكونات المجتمع، كانوا أيضا من ضحايا الدعم السريع، إذ تعرّضوا للقتل والنهب والتشريد.
أما لواء البراء بن مالك وقائدها المصباح أبوزيد طلحة، فيتعامل التقرير معهما بقدر من التهويل السياسي والعسكري. فالأرقام المتعلقة بحجم لواء البراء فيها تضخيم متعمد، ودورها الفعلي لا يمكن فصله عن كونها تعمل ضمن منظومة أوسع تقودها القوات المسلحة السودانية، التي سعت لاحقا إلى ضبط التنظيمات المقاتلة بجانبها ودمجها قانونيا. القفز من هذا الواقع إلى استنتاجات حول “إحياء التحالف العسكري الإسلامي” أو الاستعداد للاستيلاء على السلطة يظل افتراضا مضحكا أكثر منه قراءة تستند إلى وقائع سياسية صلبة.
ووجود جدل سياسي وفكري واسع في السودان، بما في ذلك داخل التيار الإسلامي نفسه، حول تجربة حكم الإسلاميين وتداعياتها منذ سقوط نظامهم قبل نحو ست سنوات، يعكس حقيقة أن هذا التيار لم يعد كتلة صماء ولا مشروعا جاهزا للعودة إلى السلطة. هذا الجدل الداخلي، الذي شمل مراجعات وانتقادات جدية للتجربة السابقة، يجعل من التبسيط المخل اختزال الصراع الحالي في محاولة منظمة لإحياء حكم الإسلاميين، أو تصوير مشاركتهم في القتال باعتبارها امتدادا مباشرا لمشروع “سلطوي قديم”، في حين أن الواقع أكثر تعقيدا وتفككا.
الأكثر لفتا للانتباه هو الغياب شبه الكامل في التقرير لأي معالجة جدية للدعم الخارجي الذي تتلقاه مليشيا الدعم السريع، أو لدور المرتزقة، أو لشبكات الاقتصاد الحربي العابرة للحدود، أو للانتهاكات الممنهجة التي أعادت إنتاج مآسي دارفور على نطاق أوسع. هذا الصمت يقابله تركيز مكثف على مخاطر افتراضية تتعلق بمستقبل سياسي لم يتشكّل بعد، في ازدواجية واضحة في المعايير التحليلية.
الحرب في السودان اليوم ليست صراعا أيديولوجيا، بل نتيجة تمرد مليشياوي مسلح يسعى لفرض واقع جديد بالقوة، وارتكب في سبيل ذلك فظائع غير مسبوقة. إن تحويل النقاش من هذه الجرائم الجارية إلى سيناريوهات مستقبلية حول “عودة الإسلاميين” لا يخدم فهم الأزمة ولا حلّها، بل يساهم في تشويش الموقف الأخلاقي والسياسي الدولي.
وحين يصدر هذا النوع من التحليل عن مؤسسة مؤثرة مثل Jamestown Foundation، فإن أثره يتجاوز المجال الأكاديمي إلى دوائر صنع القرار. لذلك، يصبح من الضروري التنبيه إلى أن أي قراءة تتجاهل الجاني الرئيسي أو تساوي بينه وبين أطراف أخرى أقل مسؤولية، هي قراءة ناقصة، وقد تتحول، عن قصد أو دون قصد، إلى أداة إلهاء سياسي تطيل أمد المأساة بدل أن تسهم في كشف جذورها الحقيقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى