تقارير

تحقيق حصري لصحيفة براون لاند يحكي عن تقييد الصحفيين في السودان من قبل منصات فيسبوك و أكس

خلف واجهة الحياد الزائفة تحولت منصتا فيسبوك وإكس إلى ساحات رقمية تحكمها التحالفات الخفية وأدوات النفوذ المالي. تُقيَّد الأصوات التي توثق الفظائع في السودان وفلسطين، بينما ترتفع الروايات التي تفضّلها الدول النافذة دون تدقيق أو مساءلة. لم تعد هذه المنصات تحمي الحقيقة، بل تخفي الأدلة على الجرائم، وتصمت الصحافة المستقلة، وتعيد تشكيل الفضاء العام العالمي عبر شبكات نفوذ تقرر ما يُسمح للعالم بأن يراه.
يكشف هذا التحقيق عن عالم رقمي انقلبت فيه الأدوار. منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإكس لم تعد ساحات للتعبير، بل فضاءات تُدار من وراء ستار، تمسك بخيوطها دول تملك المال والتقنيات مثل الإمارات وإسرائيل وأمريكا.
لم تعد فيسبوك وإكس فضاءً حرًا، بل تحولتا إلى أدوات تُدار بالنفوذ لتبييض الجرائم وقمع الشعوب. الخوارزميات تعمل كقضاة غير مرئيين، تبرئ القاتل وتتهم الضحية، تخفي المجازر، وتدفع بالروايات المصنوعة بعناية في غرف النفوذ.
صوت السودان يُخنق، وفلسطين تُحجب، ومن يتجرأ على كشف الظلم يُعاقب بالتقييد والمنع. ومن التقييد المتعمد لحسابات الصحفيين والنشطاء إلى الشراكات السرية بين الحكومات وشركات التكنولوجيا، تتكشف ملامح منظومة رقمية مشوهة تُغتال فيها الحقيقة تحت ثقل المال والنفوذ على أيدي الخوارزميات، في مشروع يستهدف إعادة هندسة الوعي العالمي وتمكين الظلم في كل مكان. وتفرض هذه المنظومة سرديتها القمعية ولسان حالها يقول: لا أريكم إلا ما أرى.
. منصات تحت الوصاية واستهداف الصحافة المستقلة

ككشفت الحرب الفظيعة في السودان بصورة لا تقبل اللبس عن تواطؤ منصات التواصل الاجتماعي مع مصالحها الضيقة على حساب القيم الأخلاقية التي ترفعها شعارات لا واقع لها. فبينما تسمح هذه المنصات بنشر ما يخالف الأخلاق والأعراف العامة مثل العري والجنس والشذوذ، فإنها في المقابل تمنع كل ما يكشف الفظائع الإنسانية التي تتعرض لها الشعوب المقهورة في السودان وفلسطين وغيرها. وقد بلغ التضييق حدًا جعل النشطاء يتجنبون ذكر أسماء مثل إسرائيل والإمارات وغزة إلا عبر تمويه كتابي خشية التقييد أو الحظر.
ولم تقتصر هذه القيود على الحسابات الفردية، بل طالت أيضًا المنابر الصحفية السودانية التي تدعم القوات المسلحة السودانية وتكشف انتهاكات مليشيا الدعم السريع ودور الإمارات في تأجيج الحرب ، بما في ذلك صحيفة براون لاند نفسها. فقد تعرضت صفحة الصحيفة على فيسبوك لتقييد واضح في مدى الوصول والظهور دون أي إخطار رسمي، كما تلقى عدد من الصحفيين والكتّاب المرتبطين بالمؤسسة، من بينهم محمد سعد كامل، رئيس تحرير براون لاند، والكاتبة ونائب رئيس التحرير صباح المكي، والإعلامية والمحررة نسرين سري، وآخرون، تنبيهات متكررة أدت إلى تقليص انتشار منشوراتهم بصورة ملحوظة.
وفي منصة إكس تم تعليق حساب الأستاذة/صباح المكي بالكامل عقب ردّ على تغريدات صادرة عن أنور قرقاش وعبد الخالق عبد الله، في واقعة تكشف نمطًا لافتًا من الاستهداف الرقمي الذي يطال الأصوات المنتقدة للبروباغندا الإماراتية أو الكاشفة لدورها في حرب السودان، بما يثير تساؤلات جوهرية حول معايير الإشراف على المحتوى وآليات تطبيقها.
وإضافة إلى ذلك، تواجه صحيفة براون لاند بنسختيها العربية والإنجليزية تراجعًا غير مبرر في توصيات محرك البحث قوقل. فرغم التزام المؤسسة بالمعايير التحريرية والمصادر الموثوقة، لا تُدرج مقالاتها التحليلية والتحقيقية في قوائم الاقتراح أو الظهور المتقدم، ولا سيما تلك التي تتناول الدور الإماراتي في البحر الأحمر والسودان والقرن الأفريقي. وهذا التهميش الرقمي يعزز الانطباع بأن أنماط التقييد لا تقتصر على منصات التواصل الاجتماعي، بل تمتد أيضًا إلى محركات البحث بصورة تُضعف وصول الجمهور إلى الصحافة المستقلة التي تعالج ملفات حساسة تتقاطع مع مصالح دول نافذة.
وهنا يظهر السؤال بوضوح لا مفر منه: كيف انقلبت المنصات من حاضنة للحرية إلى سلاح يعيد هندسة الرواية وفق ما يفرضه النفوذ السياسي والمالي؟ وكيف تحولت منصات يفترض أنها فضاء حرّ يكشف الحقيقة إلى أدوات هيمنة تُدار لتكميم الأصوات وتمرير روايات الزيف على حساب الضحايا؟
. المال والسياسة الرقمية
هل تستطيع دول مثل الإمارات وإسرائيل وأمريكا شراء نفوذها داخل فيسبوك وإكس؟

في السنوات الأخيرة لم تعد منصات التواصل الاجتماعي مجرد وسيلة للتسلية أو التواصل، بل تحولت إلى ساحة نفوذ سياسي وإعلامي تتحكم في الوعي العام وتوجه المزاج الشعبي وتؤثر مباشرة في مسار النزاعات والصراعات. ومع تضخم الدور الذي تلعبه هذه المنصات في صناعة الرأي العام أصبح الجدل أكثر اتساعًا حول مدى حيادها واستقلالها، خصوصًا في ظل الاتهامات الموجهة لدول ثرية مثل امريكا والإمارات وإسرائيل باستخدام المال والشراكات والضغوط غير المعلنة لشراء النفوذ داخل هذه الشركات وتوجيه سياساتها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
تطرح هذه التساؤلات نفسها اليوم بقوة لأن الوقائع المتكررة تشير إلى أن قرار السماح أو الحظر داخل هذه المنصات لم يعد قرارًا تقنيًا أو مرتبطًا بمعايير أخلاقية واضحة، بل أصبح مرتبطًا بأجندات سياسية ومصالح أمنية تقبع خلف الستار وتدير قواعد اللعبة الرقمية كما لو كانت ساحة نفوذ جيوسياسي جديدة.
. المال كأداة للنفوذ الرقمي

تعتمد شركات التكنولوجيا الكبرى مثل ميتا المالكة لفيسبوك وإنستغرام ومنصة إكس تويتر سابقًا على الإعلانات والاستثمارات الضخمة لتحقيق أرباحها. هذا النموذج الاقتصادي يجعلها عرضة لتأثيرات مالية وسياسية مباشرة وغير مباشرة، سواء عبر شركات الضغط أو تمويل مراكز الأبحاث الرقمية أو من خلال الشراكات الإعلانية الحكومية. ويرى عدد من المحللين أن دولًا مثل الإمارات تمتلك قدرة واسعة على شراء النفوذ عبر المال الناعم، سواء من خلال حملات العلاقات العامة الرقمية أو عبر شبكات نفوذ مترابطة داخل الشركات الغربية. أما إسرائيل فلطالما وظفت التكنولوجيا والإعلام كجزء من أدواتها السياسية والأمنية لتوجيه السرديات المتعلقة بالصراع في الشرق الأوسط.
الكاتب والصحفي الأرجنتيني قوستافو إن جي قال لصحيفة براون لاند إن العلاقة بين بعض الدول والمنصات علاقة تكافلية. تمتلك بعض الدول قدرًا من النفوذ على المنصات، وفي المقابل أصبحت المنصات جزءًا من منظومة القوة التابعة لتلك الدول. وأوضح أن امتلاك الإمارات حصة في شركة إكس يمنحها مقعدًا على الطاولة للتأثير في اتجاه الشركة وسياساتها. أما إسرائيل فتتعاون بشكل لصيق مع المنصات في مراقبة المحتوى وإزالته عندما تعتبره تهديدًا أو تحريضًا، ولديها تاريخ طويل من التنسيق مع فيسبوك لإزالة المحتوى الذي تصنفه على أنه مرتبط بجماعات مثل حماس.
وأشار إلى أن الحكومات التي تم ذكرها تقدم حججًا بأن بعض المحتوى يشكل تهديدًا للأمن القومي، وتضغط على المنصات لإزالته دون شفافية واضحة بشأن المعايير المستخدمة. كما أن شركات التكنولوجيا الكبرى تنفق ملايين الدولارات على الضغط السياسي في واشنطن وبروكسل وغيرها، وتستجيب أحيانًا لضغوط الحكومات عبر قنوات غير رسمية لتجنب التصادم معها والمحافظة على علاقة إيجابية.
وأضاف أن هذه الشركات أصبحت لاعبين عالميين أقوياء يتفاوضون ويقاومون ويعيدون تشكيل سياساتهم بما يتوافق مع مصالحهم في بيئات تنظيمية مختلفة. فهي تمتلك مليارات المستخدمين، وهو رقم يفوق عدد سكان أي دولة منفردة. بينما تشرع حكومة واحدة لمواطنيها فقط، تؤثر هذه المنصات في الحياة اليومية لمليارات البشر في ما يقارب مئتي دولة. هذه القاعدة البشرية الضخمة تعطيها قوة اجتماعية هائلة، فهي لم تعد مجرد شركات، بل أصبحت الساحة العامة والمكتبة والناقل الإعلامي والفضاء الذي تتشكل فيه السرديات. إن تحديد ما يُرى وما يُضخم وما يُخنق هو نوع من السلطة كانت تمتلكه الدول عبر قوانين الصحافة أو شبكات التلفزيون. الآن بات بيد إقطاعيات التكنولوجيا.
وأضاف أن ميزانيات هذه الشركات تتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للعديد من الدول، لكن الأكثر خطورة هو تحكمها في البيانات. فهي تسيطر على البيانات الأكثر قيمة في العالم مثل أفكار المستخدمين، علاقاتهم، أذواقهم، مخاوفهم، مواقعهم. هذه السيطرة على المعلومات تمنحها ميزة استراتيجية تتجاوز قدرة أي حكومة وطنية. ثم أشار إلى أن مجلة دانغداي المكرسة للتبادل الثقافي بين الأرجنتين والصين والتي يشغل منصب مدير التحرير فيها تعرضت للحظر من منصة إكس دون أي تفسير رغم طلبهم الرسمي لمعرفة الأسباب.
أما الصحفي اللبناني مهدي درير فيري فأوضح لصحيفة براون لاند أن بعض المنصات تطبق سياسات تؤدي إلى حذف أي منشور يحتوي على كلمات مثل مقاومة أو شهيد، حيث تقوم الخوارزميات بحذفه تلقائيًا بعد دقائق. وأضاف أن منصة إكس توفر هامشًا أكبر من الحرية نسبيًا، لكنه تابع هذا الملف ووجد أن إسرائيل لديها شراكات مع مايكروسوفت وقوقل، وأن هذه الشركات اتفقت معها على مراقبة المنشورات المعارضة لتوجهاتها، وتم بالفعل حذف العديد من حسابات صحفيين تناولوا ملف غزة عبر حساباتهم الشخصية.
وقال ناصر ذو الفقار الصحفي المصري المتخصص في الشؤون الدولية لصحيفة براون لاند إنه في الآونة الأخيرة أصبح التعبير عن الرأي داخل منصات التواصل الاجتماعي خاضعًا لسياسات منحازة لطرف دون آخر. وأشار إلى أنه خلال العدوان الإسرائيلي على غزة أصبح من شبه المستحيل كتابة منشور يدين الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين دون أن يتعرض للحجب أو الإخفاء. وحاول البعض التحايل عبر كتابة الكلمات المحظورة بطريقة مموهة حتى لا تقع تحت طائلة الخوارزميات المنحازة. ومن هنا يرى أن إسرائيل أصبحت من الدول التي تتحكم في ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة واضحة لطمس الحقائق وإخفاء الجرائم. وأكد أنه واجه بنفسه صعوبة كبيرة في كتابة منشورات تنتقد الإبادة الجماعية في غزة أو العدوان على لبنان وإيران وسوريا، حيث كان مجرد كتابة كلمة إسرائيل يؤدي إلى حظر المنشور وعدم ظهوره للمتابعين.
إن الصورة التي تتشكل من شهادات الصحفيين والخبراء والباحثين تشير إلى نمط متكرر لا يمكن تجاهله. المال، والنفوذ السياسي، والتحالفات التقنية، كلها أصبحت أدوات تُستخدم لشراء مساحة التأثير داخل منصات يفترض أن تكون محايدة. والنتيجة هي فضاء رقمي يُعاد هندسته حسب مصالح الأقوى، بينما يُحرم المظلومون من حقهم في الكلام وحق الحقيقة في الظهور.
. السودان نموذجًا
حين يعاقب الصوت الحر

في السودان اشتكى ناشطون وصحفيون من تعرض حساباتهم للحظر أو التقييد على فيسبوك وإكس بعد نشرهم محتوى يوثق الانتهاكات الإنسانية التي ترتكب في مناطق النزاع على يد مليشيا الدعم السريع الممولة من دولة الإمارات العربية المتحدة. وأكد عدد منهم أن هذه القيود جاءت عقب حملات تبليغ منظمة نفذتها حسابات مجهولة الهوية يُعتقد أنها تعمل لصالح جهات خارجية تسعى إلى طمس الحقائق وتبديل الرواية، خصوصًا بعد اتساع الحملة الإعلامية والدعائية التي عمّت أنحاء العالم وأدانت الدور الإماراتي في تأجيج الصراع في السودان.
الصحفي والكاتب محمد حامد جمعة نوار أوضح أنه لاحظ في الفترة الأخيرة أنه عندما بدأ نشر منشورات تتعلق بالإمارات والانتهاكات أصبح حسابه مقيدًا مقارنة بمنشوراته السابقة التي كانت تحظى برواج واسع. وأضاف أنه لاحظ انخفاضًا حادًا في التعليقات والتفاعل والمشاركة، وأن كثيرين من قراء منشوراته أكدوا له أن صفحته على فيسبوك لم تعد تظهر لهم، رغم أنه لم يتلق أي إخطار من إدارة فيسبوك بشأن ذلك. وأشار إلى أن تعامله اليومي مع الحساب والمؤشرات التي يقيس بها انتشار منشوراته تؤكد له أن هناك مشكلة حقيقية في وصول المحتوى الذي ينشره. ورغم توثيق كثير من الانتهاكات بالصوت والصورة لم تتخذ المنصات إجراءات جادة ضد الحسابات التي تبث خطاب الكراهية أو الأخبار المضللة لصالح أطراف معينة مثل مليشيا الدعم السريع، وهو ما يعمق الشعور بالانحياز والتواطؤ.
كما أشار الكاتب والصحفي السوداني السماني عوض الله إلى أن العديد من حسابات الصحفيين السودانيين تم تقييدها وحظرها دون مبرر واضح، مما يثير تساؤلات حول المعايير الانتقائية التي تطبقها هذه المنصات.
وقالت الكاتبة الصحفية رشان أوشي إن إدارة منصة فيسبوك قامت بتقييد حسابها مستندة إلى منشورين قديمين أحدهما نشر في عام ٢٠١٨ والآخر في عام ٢٠٢٣ بحجة مخالفتهما للمعايير، مؤكدة أنها لا ترى أي مبرر واقعي لهذا التقييد ولا تفسيرًا منطقيًا يعكس أسباب هذا القرار.
إن هذا التباين في تطبيق السياسات، وتجاهل الانتهاكات الموثقة مقابل معاقبة الأصوات التي تكشفها، يعيد طرح أسئلة جوهرية حول حياد شركات التواصل الاجتماعي، خصوصًا عندما تتقاطع مصالحها الاقتصادية والتحالفية مع مصالح دول نافذة.
د. إبراهيم شقلاوي قال لبراون لاند إن من الواضح اليوم أن منصات التواصل الاجتماعي، رغم ما تمثله من مساحة مفتوحة للتعبير، أصبحت أيضًا ساحة تتقاطع فيها المصالح السياسية والاقتصادية وحتى الفردية. فشركات التكنولوجيا الكبرى مثل ميتا المالكة لفيسبوك وإنستغرام أو إكس ليست منصات محايدة تمامًا، بل تتأثر بالضغوط المباشرة وغير المباشرة، سواء من الحكومات أو من مجموعات مصالح تستخدم المال والنفوذ لتوجيه السياسات أو التحكم في تدفق المعلومات. وأكد أن هناك بالفعل مؤشرات على أن بعض الدول تمتلك أدوات ضغط سواء عبر الاستثمار أو عبر العلاقات الأمنية والإعلانية تمكنها من التأثير على خوارزميات المنصات أو على قرارات حجب أو إبراز محتوى معين.
ويرى أن هذا الوضع يثير قلقًا مشروعًا حول العدالة والشفافية في إدارة الفضاء الرقمي، خاصة عندما يتعلق الأمر بتغطية قضايا حساسة مثل حقوق الإنسان أو الفساد أو الصراعات الإقليمية، ولا سيما في حالة السودان والحرب التي تشهدها البلاد، والانتهاكات الوحشية التي ترتكبها مليشيا الدعم السريع بحق المدنيين. وإلى جانب الضغوط المؤسسية هناك شكل آخر من التقييد يأتي من أفراد أو مجموعات تستخدم أنظمة التبليغ بصورة كيدية ومنظمة. وذكر أنه واجه ذلك شخصيًا حيث تعرضت حساباته على أكثر من منصة لتقييد مؤقت أو إيقاف بدعوى انتهاك الخصوصية أو الرسائل المزعجة، بينما كان الأمر في الحقيقة نتيجة بلاغات كاذبة هدفها إسكات صوت صحفي أو حجب محتوى يكشف انتهاكات إنسانية تجري في بلاده.
وأوضح أن إدارات المنصات غالبًا ما تعيد الحساب بعد التحقق خلال أربع وعشرين ساعة أو أكثر، لكن الضرر يكون قد وقع بالفعل. فالتعطيل المؤقت في لحظة نشر حساسة يعني مصادرة فورية ومؤثرة لحرية التعبير، خاصة في المجال الصحفي حيث للزمن قيمة جوهرية. وكل ذلك يؤكد أننا نعيش مرحلة جديدة من الرقابة الرقمية، ليست فقط بقرارات حكومية، بل أحيانًا عبر آليات خوارزمية معقدة أو من خلال إساءة استخدام أدوات الشكوى الجماعية. وما لم تكن هناك معايير شفافة واستقلالية حقيقية لهذه المنصات ستظل حرية الصحافة الرقمية عرضة للانتهاك تحت غطاء السياسات التقنية.
وقالت الصحفية السودانية سارة الطيب إن منصة قوقل قامت بحجب الإعلانات عن موقعها فوري نيوز بعد نشر مقال تناول دور الإمارات وكيفية دعمها لمليشيا الدعم السريع.
أما الصحفي السوداني معاوية الجاك فيرى أن تغيير سياسات منصات مثل فيسبوك أو إكس أمر صعب، لأن هذه المنصات إن فقدت مصداقيتها فقدت وضعها وخسرت ماليًا وأدبيًا. ويشاطر معاوية هذا الرأي هجو أحمد محمد علي رئيس تحرير الأخبار بتلفزيون السودان، الذي قال إنه يعتقد أن تغيير السياسات في منصات مثل فيسبوك وإكس بهدف وضع قيود محددة أمر بالغ الصعوبة، لأن مالكي هذه المنصات من أغنى رجال الأعمال في العالم. وأشار إلى أنه رغم وجود اتهامات حول تدخل الإدارة الأمريكية في بعض السياسات، إلا أن المنصتين تصدران دائمًا نفيًا رسميًا ومباشرًا لذلك.
وأوضح أنه خلال تجربته الشخصية لم يواجه سياسات تقييدية غير تلك المعلنة والمعروفة لحماية المجتمعات. وأضاف أن الناس شاهدوا خلال حرب غزة كيف برز دور المؤثرين ووسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام العالمي وخلق سردية إعلامية قوية لصالح الفلسطينيين، وأن المؤثرين ساهموا في إحداث تغييرات كبيرة في المزاج العالمي وحشد الدعم للقضية الفلسطينية دون أن تتدخل هذه المنصات لفرض قيود أو سياسات تحد من هذا الزخم.
ويرى أن التأثير على هذه المنصات عبر دفع الأموال يمكن أن يحدث بصورة غير مباشرة من خلال ما يعرف بالمزارع الإلكترونية، وهي منصات مدارة لتنفيذ أجندات محددة تستخدم لتشكيل الرأي العام من خلال نشر المعلومات والأفكار وتعبئة المؤثرين وحشد الدعم أو الاعتراض على مختلف القضايا.
قال الصحفي السوداني رحمة عبد المنعم إن منصات التواصل الاجتماعي تمتلك من حيث المبدأ سياسات معلنة يفترض أن تطبق على جميع المستخدمين دون استثناء، غير أن التأثيرات السياسية والاقتصادية على هذه المنصات ليست أمرًا مستبعدًا، خاصة عندما تكون الدول المعنية ذات قدرات مالية كبيرة ونفوذ إقليمي واسع. وأوضح أن شركات التكنولوجيا الكبرى تعتمد على الإعلانات وعلى شبكة علاقات ممتدة مع حكومات عديدة، وهو ما يفتح الباب بصورة مباشرة أو غير مباشرة لتأثير بعض الدول في طريقة تطبيق السياسات أو تحديد أولويات المراجعة أو أساليب الحظر.
وأشار إلى أنه واجه شخصيًا أنواعًا متعددة من التقييد على حساباته عندما كان ينشر أو يوثق انتهاكات إنسانية ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل ٢٠٢٣، وأن الأمر لا يقتصر على السودان فقط، بل يتكرر كذلك في المحتوى المتعلق بفلسطين. فالمجازر والانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي كثيرًا ما تتعرض للحظر أو الإخفاء أو التقييد. وذكر أن كثيرًا من المستخدمين يؤكدون أن مجرد كتابة كلمة فلسطين أو الإشارة المباشرة للجرائم الإسرائيلية قد يؤدي إلى إغلاق الحساب أو الحد من انتشاره.
وأوضح أن الوضع نفسه يحدث عند استخدام تعبير المليشيا للإشارة إلى مليشيا الدعم السريع الجنجويد، حيث يقيد فيسبوك استخدام الكلمة أو يحذف المنشور تلقائيًا، مما دفع العديد من المستخدمين إلى التحايل عبر تغيير حرف أو إضافة فاصلة لتفادي الخوارزميات. وهذا يدل على أن الخوارزميات ليست محايدة بالكامل، وأنها تعكس في جوانب محددة حساسيات سياسية تجاه مصطلحات بعينها.
وأضاف أنه من خلال متابعته المستمرة للمنصات لاحظ شكاوى عديدة من تقييد الحسابات أو إغلاقها بسبب منشورات تتحدث عن دور الإمارات في حرب السودان أو تشير إلى دعمها لمليشيا الجنجويد. واعتبر أن هذه الشكاوى المتكررة لا يمكن تجاهلها، وتشير إلى أن التأثير السياسي في سياسات المنصات، سواء كان مباشرًا أو عبر خوارزميات غير متوازنة، يبقى احتمالًا واقعيًا ومطروحًا بقوة.
ورأى أنه بناء على ذلك فإن القول بأن دولًا مثل الإمارات أو إسرائيل قد تتمكن عبر النفوذ والمال من التأثير في سياسات هذه المنصات بما يخدم مصالحها ليس ادعاءً بعيدًا عن الواقع، بل يستند إلى ما يلمسه المستخدمون يوميًا من تضييق وانتقائية في تطبيق القواعد.
وقال الصحفي والكاتب عاصم البلال في تصريح خاص لصحيفة براون لاند إن امتلاك المال بالنسبة للدول يمثل جواز مرور لتحقيق مصالحها وسياساتها الداخلية والخارجية، وإن منصات مثل فيسبوك وإكس أصبحت من أخطر الأسلحة الإعلامية وأكثرها تأثيرًا، ولم تعد مجرد امتداد للإعلام التقليدي. فقد أحدثت هذه التطبيقات نقلة عميقة أنهت الشكل التقليدي للإعلام القائم على الخبر والاستطلاع، وأصبحت تمثل صحافة الأثر والتأثير وخدمة المصالح والأجندات.
وأوضح أنه لا يتصور أن هذه المنصات معصومة من الخطأ لأن أي عمل بشري معرض للاختراق أو الطمع، وأن الدول عمومًا تسعى إلى حماية مصالحها وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي لا يستبعد سعي بعض الدول إلى السيطرة على هذه التطبيقات. وأشار إلى أنه شخصيًا تلقى تحذيرًا من هذه المنصات أدى إلى تعليق صفحاته التي يمارس عبرها مهنة الصحافة الرقمية بدلًا من الصحافة الورقية، وأن هذا التقييد في حد ذاته يمثل إشارة واضحة إلى وجود تأثير يرمي إلى إخضاع الصحفيين والإعلاميين والناشطين الذين يتخذون من هذه المنصات مساحة للتعبير. واعتبر أن هذا التقييد هو شكل من أشكال الإخضاع للرأي العام تقوده منصات مثل فيسبوك وإكس.
٥. سوابق دولية

تاريخ من الانحياز
ليست هذه المرة الأولى التي تتهم فيها منصات كبرى بعدم الحياد. ففي عام ٢٠٢١ كشف تحقيق لصحيفة The Guardian أن فيسبوك تجاهل محتوى تحريضي ضد الفلسطينيين خلال أحداث القدس وغزة، بينما قام بحذف منشورات مشابهة مؤيدة للفلسطينيين. وفي الهند اتهمت شركة ميتا بالتساهل مع خطابات الكراهية الصادرة عن مسؤولين في الحزب الحاكم مقابل حماية مصالحها التجارية الضخمة في البلاد. أما منصة إكس تويتر سابقًا فقد واجهت شكاوى من منظمات حقوقية اتهمتها بالتحيز لصالح الحكومات في تركيا والسعودية بعد تقييد حسابات معارضين أو حذف محتوى بناء على طلبات رسمية. وقد دفعت هذه الوقائع منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية إلى توجيه انتقادات مباشرة للشركات المالكة لتلك المنصات متهمة إياها بازدواجية المعايير والرضوخ للمال والنفوذ السياسي.
٦. المصادر والمساءلة

ببحسب تقارير صادرة عن منظمة العفو الدولية ومركز ستانفورد للإنترنت والمجتمع ومشروع الشفافية الرقمية في جامعة أكسفورد، فإن العديد من منصات التواصل الكبرى تتلقى ضغوطًا رسمية وغير رسمية من الحكومات لتعديل سياسات النشر أو تغيير أساليب الإشراف على المحتوى. وقد أوصت هذه الجهات بضرورة فرض قوانين شفافية رقمية تلزم الشركات بالكشف عن الجهات التي تمول الإعلانات السياسية وعدد طلبات الحذف الحكومية ومصادر التمويل التي قد تؤثر في سياسات الإشراف على المحتوى. ورغم ذلك ما تزال هذه المنصات تعمل في منطقة رمادية بين حرية التعبير والمسؤولية التجارية، مما يجعلها عرضة للاتهام بأنها تساهم، بوعي أو دون وعي، في ترسيخ النفوذ السياسي لمن يملك المال.
٧. خاتمة

معركة الوعي في زمن الخوارزميات
إن ما يحدث في السودان اليوم ليس حدثًا محليًا معزولًا، بل يمثل جزءًا من معركة عالمية على الوعي الرقمي. فعندما يصبح الصوت الحر مهددًا، وعندما يصبح من الممكن شراء الحياد بالمال، تتحول المنصات من فضاء للتعبير إلى أداة للهيمنة. وفي زمن تُدار فيه الحروب والمواقف عبر الخوارزميات تتعاظم الحاجة إلى مساءلة الشركات التقنية الكبرى، لأن السكوت عن انحيازها يشكل في حد ذاته نوعًا من القمع الحديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى