عبدالعزيز يعقوب
(١)
في ظل تصاعد غير مسبوق للصراع بين إيران وإسرائيل، تتجه المنطقة، بل والعالم، نحو لحظة مفصلية قد تعيد رسم خرائط النفوذ وحدود القوة. ومع تصاعد وتيرة المواجهات العسكرية، لم تعد المواقف الدولية تُصاغ بعبارات دبلوماسية باهتة، بل خرجت إلى العلن في صورة تصريحات حادّة وتحركات عسكرية مقلقة، لترسم مشهدًا أكثر قتامة مما عهدناه في العقود الأخيرة.
لكن ما يثير القلق العميق ليس فقط قعقعة الصواريخ وأزيز الطائرات، بل موقف روسيا والصين، إذ خرجتا عن صمتهما التقليدي وأطلقتا تحذيرات صريحة بأن أي تدخل أمريكي مباشر سيواجَه بردّ محسوب. هذه المواقف لا تنبع من تعاطف آيديولوجي مع طهران، بل تعبّر عن اصطفاف استراتيجي ضد واشنطن، وكأن العالم يُستدعى من جديد إلى مشهد الحرب الباردة، لكن دون ضوابطها القديمة أو خطوطها الحمراء المتفق عليها.
في هذا السياق، ظهرت تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب باردة ومتناقضة، تعكس حرجًا داخليًا واضحًا. فبين خطاب انتخابي يسعى لتجنّب الحروب، وضغوط لوبيات داخلية متحالفة مع إسرائيل، بدا الموقف الأمريكي وكأنه يحاول السير على حبل مشدود. اللافت أن الكونغرس، وتحديدًا مجلس الشيوخ، سارع إلى تقديم مشروع قانون يُقيّد صلاحيات الرئيس في شنّ حرب على إيران دون موافقة مسبقة، في إشارة فاقعة إلى انقسام المؤسسة الحاكمة حول طبيعة التهديد وحدود التحالفات.
(٢)
من هنا يبرز السؤال الجوهري، هل لا تزال الولايات المتحدة على استعداد للدفاع عن إسرائيل بأي ثمن، كما كان الحال في العقود الماضية؟
لم يعد هذا السؤال افتراضيًا، بل صار حتميًا في ظل إعادة صياغة النظام الدولي. فإسرائيل، التي طالما عُدّت “أصلًا استراتيجيًا” في سجل المصالح الأمريكية، باتت في نظر بعض دوائر القرار عبئًا قد يجرّ واشنطن إلى مواجهة كبرى لا تملك رفاهية خوضها. وفي المقابل، لم تعد الصين وروسيا تكتفيان بدور المتفرج، بل أرسلتا رسالة حاسمة: إيران لن تُترَك وحدها إذا تجاوزت واشنطن الخط الأحمر.
لا يُقرأ هذا الموقف على أنه دفاع عن الجمهورية الإسلامية بقدر ما يُفهم على أنه تحدٍّ شامل لفكرة التفرد الأمريكي. من أوكرانيا، إلى بحر الصين الجنوبي، حتى الخليج العربي، تتجسد هذه المواجهة على جبهات متشابكة، في ما يشبه “توازن الرعب” الجديد. إنه صراع لا يسعى لحسمٍ مباشر، بقدر ما يهدف إلى منع واشنطن من فرض إرادتها منفردة.
وسط هذا المشهد، تبدو إسرائيل أقل اطمئنانًا من أي وقت مضى. الصمت المريب في البيت الأبيض، وتصريحات ترمب المرتبكة، تعكس إدراكًا داخليًا بأن الزمن تبدّل، وأن كلفة التحالف غير المشروط مع تل أبيب لم تعد محسومة داخل المؤسسة الأمريكية.
أما إيران، التي لطالما وقفت على حافة المواجهة، فتجد نفسها الآن محاطة بدعم سياسي وعسكري غير مباشر، لا لعدالة قضيتها بل لواقع جيوسياسي جديد يُصاغ على أنقاض النظام الأحادي القطبية.
(٣)
إن أوراق التحالفات تُخلَط من جديد، والمصالح يعاد تعريفها بلغة السلاح والردع، لا عبر بيانات المؤتمرات. وبينما كانت واشنطن تمسك بخيوط اللعبة كاملة، أصبحت اليوم ممسكة بخيط الخوف وحده، تُراجع حساباتها في كل خطوة، خشية الانزلاق إلى مواجهة قد تغيّر وجه العالم.
المواجهة قادمة، لا لأن أحدًا يريدها، بل لأن أدوات تفاديها تتفكك، وتحالفات الأمس تفقد مفعولها، وموازين القوة تتحرّك صوب مراكز لا تسمح للهيمنة أن تبقى على عرشها القديم.
ويبقى السؤال معلقًا، ينتظر جوابًا لا يأتي من التصريحات، بل من القرارات المصيرية:
هل ستُحسن أمريكا قراءة هذا التحول الجيوسياسي قبل أن يُفرض عليها بلغة النار؟.
