بين الجد والهزل!

 الدكتور الخضر هارون

يحار الحليم في أمر الدنيا لما يري من فعائل الناس وتناقض مواقفهم بالقفز بين النقائض بل بالتقاذف بها في عصر أسدي العلم  فيه للتوثيق منة  الصورة والصوت حتي يضيق منافذ الشر ولكن وبعد حين يمنح الذكاء الاصطناعي المنكرين والمراوغين فجوة للإنكار والكذب . وهكذا كلما ابتني الصدق لنفسه قلاعاً شاهقات العلو ، اصطنع الباطل لنفسه و عبر أعوانه مسارب ومخارج تبقي علي عالم التدليس !

والتناقض في الناس قديم قدم الإنسانية لكنه يتفاوت في مقدار ما يفشو في الناس فيغلب علي السلوك العام للناس في أوقات دون أوقات ومن تلك الأوقات التي تكون فيها الغلبة والسطوة له ،ما نحن عليه  في زماننا هذا الذي نعيشه. نعم في هذه الألفية الثالثة  من رزنامة غريغوري!

ويبدو أن عبدالملك بن مروان الذي يعد المؤسس الفعلي لدولة بني أمية بعد وفاة معاوية وابنه وبعد وفاة ابيه مروان بن الحكم، فهو الذي دون الدواوين وصك أول عملة في تاريخ المسلمين بعد ان كانت عملتهم حتي أيامه عملة بيزنطية عليها خاتم إمبراطور الروم.  بل يقال إن الإمبراطور غضب وتوعد عندما علم بنية عبدالملك التخلي عنها!  والويل اليوم للذين يفكرون استبدال الدولار من غضب الإمبراطور ، هل يعيد التاريخ نفسه حقاً؟!وقد ازدادت وتيرة الفتوحات علي أيامه كما  أنً حفيده عبدالرحمن بن معاوية بن هشام الذي عرف بالداخل والذي سماه غريمه القوي حاكم دولة بني العباس أبو جعفر المنصور في لحظة صدق بصقر قريش، قد أسس ملك الأمويين في الأندلس والذي استمر لثلاثة قرون قبل التفكك ومجئ ملوك الطوائف ، يبدو أنه كان فظا في القول أو (مسيخاً) في العامية السودانية ( أي ماسخاً بلا طعم) أو ربما أن نفخة السلطان تحدث ذلك الزهو الذي يري في الكياسة في مخاطبة عوام الناس  ضربا من اللين الذي يذهب هيبة الملك  ، وويل للناس من هذه العبارة الثقيلة، هيبة الملك !تزهق بسببها الأرواح البريئة الحرام وتنتهك الأعراض. ولعل عبدالملك لم يسمع بشاعر من عندنا يمدح محبوب له بأن ( لهيجو كمين نحل ملم ) أي أن العبارات التي يتفوه بها تخرج عذبة كأنها  تخرج من خلايا نحل  تفيض بالعسل جمعت في وعاء !  إذ روي أنه لم يستملح جمال بثينة عشيقة جميل بن معمرالتي خرجت إليه في مباذلها لا تحفله وكانت امرأة ضيقة الخلق ، خلفاء  ولم تسعفه حكمة أهلنا بأن حب الناس مذاهب أو أن الحب المسكين أعمي فقال لها : مالذي رآه جميل فيك فردت سريعا وبقوةً وبذات الفظاظةً: الذي رآه الناس فيك حين استخلفوك!

كذلك رووا أنه  استصغر كثير بن عبدالرحمن عشيق عزة حين رآه فقال قولته التي ذهبت مثلاً: “تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. ” وهذا لايقال في وجه الرجل مهما بلغ مقامه من رقة الحال وكآبة المنظر ولا يقبله حر مهما بلغ من قلة الحيلة وكذلك كان كثير الذي كان دميما قصيرا ،كان في الموعد متأهبا للرد  لم يحن  هامته ولم يزدر د مقالة الأمير الجارحةُ   خوفا من بطشه فعاجلها  بقوة البيان عن مكنوناته من عزة النفس واحترام الذات فأهدانا نظيرها حكما خلدها التاريخ:

يا أمير المؤمنين كل عند محله رحب الفناء شامخ البناء  ، عال السناء .ثم أرتجل تلك الروائع :

تري الرجل النحيل فتزدريه

وفي أثوابه أسد هصور

ويعجبك الطرير إذا تراه

فيخلف ظنك الرجل الطرير

وطرز ذلك بباقة من الحكم الباقية أبداً:

-خشاش الطير أكثرها فراخا

وأم الصقر مقلاة نذور

بغاث الطير أطولها رقابا

ولم يطل البزاة ولا الصقور

ضعاف الأسد أكثرها زئيرا

وأصرمها اللواتي لا تزير

وقد عظم البعير بغير لب

فلم يستغن بالعظم البعير

وزاد وأجاد بما  لا يحتاج لمزيد  فجلكم يحفظ ذلك عن ظهر قلب.

أذعن الأمير المهاب قائلا : لله دره والله لا أحسبه إلا كما وصف نفسه!

والشاهد أن الكمال عزيز وهو دوما في القلة والندرة .

قال رب العزة يواسي النبي عليه الصلاة والسلام  ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) . وقال صلي الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم بلفظين متقاربين:

“إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة”

قال الخطابي في تأويله : إن أكثر الناس أهل نقص وأما أهل الفضل فعددهم قليل جدا فهم بمنزلة الراحلة في الابل. ففي مائة منها قد تجد واحدة صالحة أن تحمل عليها المتاع.

وهكذا الناس في كل زمان ومكان بتفاوتون  كما قلنا فقد تغشي الناس حقب قصيرة تغلب فيها خيرية قصيرة الأجل سرعان ما تعقبها حقب عجاف يكثر فيها الزيف و النفاق والهرج.

قالت الخنساء:

ولو لا كثرة الباكين حولي

علي اخوانهم لقتلت نفسي

قول كقولنا ( الموت مع الجماعة عرس!)

لكنها استدركت:

وما يبكون مثل أخي

ولكن أعز النفس عنه بالتأسي

فطبائع الأشياء وطباع الزمن لم تكن في يوم من الأيام مصدرا للمواساة.

قال المغني :

أصلو طبعك يا زمن لا راضي أنتي تغيرو ولا نحن راضين بالمحن!

ولاذ الجواهري بالصمت:

إذا ضاقت علي الحران جمرته

فالصمت أفضل ما يطوي عليه فم

وصابرين علي البلوي تراودهم

في أن تضمهم أوطانهم حلم

هذا في باب التأسي وهو حسن  ولازم لاستدامة الحياة.

والناس من قهر الاحباط يصطنعون الفرح ويتشبثون بالأحلام ويحسنون الظن فيمن لا يستحقون تماما كالغريق يتشبث بالقشة مطية للنجاة من الغرق. وسئ الحظ من يوافي عمره أزمان تتغير فيها الخرائط وتتعري فيها الرغائب الهابطة حيث يستغني  الأغنياء الأقوياء الظلمة من الناس عن القفازات الناعمة ومساحيق الزيف البراقة وعبارات الخداع المخدرة فيجيؤون كما يجئ السيل المدمر والوباء الفتاك ،جيئة هولاكو  وهو يزأر في الضحية: أيها التعيس الضعيف المخدوع تأهب فإني قاتلك!

وهذا من خداع النفس وهو قبيح قبحا تعجز عن وصفه الكلمات! ويعذر العاشق المتيم ولا يعذر غيره حين انتظر حبيبه طويلا ولم يأتي فقال يخادع نفسه:

وفات ميعادنا فات روح وشال الليل حكاياتو

أناً المستني في الميعاد وليك حبل الصبر مديت

أغالط نفسي في إصرار أقول يمكن أنا الما جيت!

قول فظيع كمن أصابه الزهايمر  والديمنشا ،أليس كذلك ؟ بمثله إن أصاب أمة لا يبقي  معه وطن!

هذا قدرنا أيها السادة  والسيدات فتهيأوا له بما يلزم وفق نصيحة طاغية المغول!

هذه دعوة ليست  للتسليم والاستكانة لأن الذي يرضي بذلك فقط ليظل علي قيد الحياة حيا  بين الأحياء يهبط بنفسه إلي دركات النبات فيقتات. لكنها دعوة للتبصر والقراءة بين السطور وفي ظلال الكلمات  ورؤية الأشجار التي تسير حتي لا يؤتي من قبل الأماني العذبة والقول المعسول وحركات البهلوان فالأمر جد لا هزل فيه!

Exit mobile version