بين البحر والحدود: اشتعال صامت يقترب من القرن الأفريقي

مهند عوض محمود
تتحرك منطقة القرن الأفريقي هذه الأيام على إيقاع توتر متسارع يعيد رسم ملامح التوازنات الإقليمية، بينما تتقاطع الحسابات الجغرافية مع طموحات النفوذ، وتعود خطوط الصراع القديمة بين إثيوبيا وإريتريا لتطل برأسها من جديد. ما يبدو في ظاهره مجرد نزاع حول منفذ بحري، يتسع في عمقه إلى مشهد كامل يعكس صراع إرادات وسيادة وهوية، ويهدد بتحويل المنطقة إلى ساحة صدام جديدة على تخوم البحر الأحمر. فالسعي الإثيوبي الحثيث نحو منفذ بحري — سواء عبر خطاب “الحق التاريخي” أو عبر الاتفاقات المتشعبة مع أطراف مثل أرض الصومال — يحمل دلالات تتجاوز حاجات التجارة والاقتصاد، وينزلق شيئاً فشيئاً إلى مشروع لإعادة تعريف دور إثيوبيا الجيوسياسي. وفي المقابل، تنظر أسمرة إلى أي تمدد إثيوبي نحو عَصَب بوصفه تهديداً مباشراً لسيادتها وموقعها الإستراتيجي، مستندة إلى إرث طويل من الصدام الحدودي وخشية من تغيّر موازين القوة في محيطها المباشر.
وفي قلب هذا المشهد المعقد تتعزّز خطورته بوجود عامل ثالث بالغ الحساسية، وهو تيغراي. فالاتفاق الذي أنهى الحرب هناك لم ينجح في بناء ترتيبات مستقرة وقابلة للاستمرار، إذ بقيت ملفات الحدود والانسحابات والعدالة والنازحين دون معالجة حقيقية، وتحولت الانقسامات داخل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى ثغرات يمكن أن تُستغل في أي تصعيد إقليمي. هذا الفراغ السياسي والأمني يجعل الإقليم عُرضة لإعادة التوظيف، سواء كأداة ضغط أو كساحة مواجهة بالوكالة، ويخلق طبقة إضافية من التعقيد تجعل أي انزلاق عسكري بين أديس أبابا وأسمرة قابلاً للامتداد عبر خطوط جغرافية هشّة ومفتوحة.
وتتعمق المخاطر أكثر في ظل الوضع الإنساني الهشّ في شمال إثيوبيا، حيث تتداخل آثار الحرب السابقة مع انكماش وصول المساعدات الدولية، وتتراجع الخدمات الأساسية إلى حد يجعل أي هزة أمنية سبباً مباشراً في توسيع دوائر النزوح والفوضى. وفي بيئة كهذه، تصبح تكلفة أي صدام أعلى بكثير من الحسابات العسكرية النظرية، لأن البنى الإدارية المحلية ضعيفة، والخطوط اللوجستية مشروخة، واللاعبين غير الرسميين — من شبكات تهريب إلى مجموعات مسلحة — مستعدين لملء أي فراغ ينشأ على الأرض. ولأن البحر الأحمر وممراته الحيوية يشكلان الامتداد الطبيعي لهذه الجغرافيا، فإن أي اضطراب في العلاقة الإثيوبية–الإريترية سينعكس تلقائياً على أمن الموانئ ومسارات الإغاثة وسلاسل التوريد البحرية، في وقت يشهد فيه الممر الدولي ازدحاماً بتنافس القوى الإقليمية والدولية.
ورغم قتامة المشهد، فإن احتمال الحرب ليس قدراً محتوماً؛ فنافذة الاحتواء لا تزال قائمة، لكنها تضيق كل يوم. ويتطلب الحفاظ على هذه النافذة تحركاً مدروساً يعيد ضبط الإيقاع السياسي والأمني بين الطرفين، عبر إعادة إحياء التزامات اتفاق بريتوريا وربط الدعم الدولي بآليات تنفيذ واضحة ومراقبة مستقلة، وإطلاق مسار تفاوض بحري واقعي يحفظ لإثيوبيا احتياجاتها التنموية دون المساس بالسيادة الإريترية، مع تفعيل دور الاتحاد الأفريقي والإيغاد لملء الفراغ الدبلوماسي قبل أن تملأه القوى الخارجية بترتيبات بديلة.
وفي سياق هذا المشهد الإقليمي المتحوّل، تبدو استعادة السودان لعضويته الكاملة داخل الاتحاد الأفريقي ضرورة استراتيجية وليست مجرد مطلب بروتوكولي. فغياب السودان عن منظومة صنع القرار الأفريقية يحدّ من قدرته على لعب دور موازن في قضايا القرن الأفريقي، ويحرم الإقليم من فاعل جغرافي محوري يمتد تأثيره من الهضبة الإثيوبية حتى البحر الأحمر. إن السودان بما يملكه من وزن جغرافي وعمق تاريخي وصلات اجتماعية عبر الحدود الشرقية، يمتلك مقومات طبيعية لتقديم نفسه طرفاً قادراً على التهدئة، وعلى طرح مبادرات تعيد ترتيب الأولويات الإقليمية في مواجهة مخاطر التدويل المتزايد وتنافس القوى الكبرى على البحر الأحمر. لكن هذه الأدوار لا يمكن ممارستها بفعالية في ظل تعليق المشاركة السودانية داخل الاتحاد الأفريقي، الذي يشكّل الإطار المؤسسي الأهم لإدارة النزاعات وبناء الأمن الجماعي في القارة. ومن ثمّ فإن إعادة تفعيل عضوية السودان ليست خطوة رمزية، بل عنصر أساسي لتمكين الخرطوم من الدفاع عن مصالحها، والمشاركة في صياغة الترتيبات الأمنية الجديدة في القرن الأفريقي، وضمان ألا تُدار ملفات الإقليم بمعزل عنه أو من خارجه. إن السودان، إذا استعاد مكانه الطبيعي داخل مؤسسات الاتحاد، يستطيع أن يتحول إلى جسر تواصل بين ضفتي البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وأن يستعيد دوره التاريخي بوصفه ضامناً للاستقرار الإقليمي لا متلقياً لارتداداته.
ويبرز السودان في المشهد الراهن لاعباً محورياً يتأثر مباشرة بتطورات القرن الأفريقي، لكنه في الوقت نفسه قادر — إذا أحسن توظيف اللحظة — على تحويل التوترات الحالية إلى فرصة لإعادة بناء موقعه الإقليمي الطبيعي. فالسودان يملك حدوداً مباشرة مع إثيوبيا، وموقعاً استراتيجياً على البحر الأحمر، وتجربة طويلة في إدارة توازنات القرن الأفريقي. ومن ثمّ، فإن دوره لا ينبغي أن يقتصر على مراقبة المشهد من بعيد، بل عليه أن يتحرك بثلاثة مسارات متوازية ؛ اولها إدارة حوار مباشر ومنخفض التوتر مع كلٍّ من أديس أبابا وأسمرة لتثبيت مبادئ عدم توسع الصراع نحو حدوده الشرقية؛ وثانيها ؛ الانخراط الفاعل مع الاتحاد الأفريقي والإيغاد لتقديم السودان كمحور تهدئة لا ساحة استقطاب؛ وثالثها فتح قنوات تفاوض غير مباشرة تضمن للخرطوم دوراً مركزياً في الأمن البحري والاستقرار الحدودي، خاصة في ظل التحولات الكبيرة في ممرات البحر الأحمر.
لكن هذا الدور يتطلب من الحكومة السودانية سدّ ثغرات واضحة قد تستغلها القوى الدولية الطامعة إذا بقيت دون معالجة. وتشمل هذه الثغرات ضرورة توحيد الخطاب الدبلوماسي السوداني، وتعزيز الضبط الأمني على الحدود الشرقية، ومنع أي تحركات غير رسمية قد تُستخدم ذريعة لتدويل الملف الحدودي. كما يحتاج السودان إلى بناء شراكات إيجابية مع القوى الإقليمية الطبيعية في محيطه — مثل مصر والسعودية وجيبوتي — من أجل خلق مظلة حماية تمنع دخول أطراف خارجية تسعى لفرض ترتيبات استراتيجية تمس أمن السودان البحري والبري.
إن اللحظة الراهنة في القرن الأفريقي ليست مجرد موجة توتر عابرة، بل هي نقطة اختبار عميقة لقدرة المنطقة على تجنب انزلاق استراتيجي واسع ستكون له انعكاسات مباشرة على الشمال الشرقي من أفريقيا بأكمله. والسودان، بما يملكه من موقع وحساسية جغرافية، يقف أمام فرصة نادرة للخروج من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل، شريطة أن تُدار اللحظة بأدوات هادئة، محسوبة، ومتوازنة، تضع الخرطوم في قلب الترتيبات الجديدة بدلاً من أن تبقى على هامشها.



