بين أحمد هارون وخالد سلك..!

ناجي الكرشابي
بغض النظر عن أن مقابلة أحمد هارون مع “رويترز” أُجريت منذ أبريل الماضي، وبغض النظر عن الطريقة السمجة التي صاغ بها الصحفي خالد عبدالعزيز الخبر، فإن ما يعنينا اليوم ليس الشكل، بل المضمون: كيف يفكر الإسلاميون في العودة؟..
وكيف يفكر خصومهم في ذلك أيضًا؟..
من اللافت أن هارون، قال بوضوح إن “الانتخابات قد توفر طريقًا للعودة إلى السلطة لحزبه”.
هذا التصريح يستحق التوقف، لأنه يفتح باب المقارنة الحقيقية بين فريقين سياسيين في بلادنا.
فريقٌ يسعى للعودة عبر “التحالف مع الدعم السريع” ودهاليز “التسوية السياسية” دون أي تفويض شعبي.
وفريقٌ “حتى وإن كان جزءاً من إرث انقلابي” بدأ يتحدث عن العودة عبر صناديق الاقتراع، أي بآلية يحتكم فيها الجميع للشعب.
خالد سلك، علّق على حديث أحمد هارون بغضب مصطنع، متسائلًا:”هل سيخرج من ظلوا يروجون أكذوبة حرب الكرامة، ليقولوا للملايين من أهل السودان إن كل ذلك كان ثمناً لبقاء الحركة الإسلامية؟”.
لكن هذا الخطاب المليء بالإدانة سرعان ما يتهاوى أمام الممارسة العملية، فسلك نفسه يقود تيارًا يراهن على العودة للسلطة من خلال تفاهمات تجمعهم مع مليشيات الدعم السريع – وهي الجهة التي مارست، بحسب كل تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية، أوسع وأبشع عملية انتهاك لحقوق المدنيين في تاريخ السودان بل تاريخ أفريقيا الحديث.
لكن السؤال الحقيقي هو: من الذي تحالف مع نفس هذا الجيش الذي أطاح بالبشير، وسماه وقتها “شريكاً في الانتقال المدني”؟
ألم يكن سلك ورفاقه في قحت، حتى الأمس القريب، يصفقون للبرهان؟.. وفي ناظري الآن صورة “سلك” وهو مطأطئ الرأس يودع البرهان في إحدى سفراته الخارجية!
هل كان الجيش وقتها “مدنياً تقدمياً”، أم أن المصالح تحجب البصيرة؟.
المدهش والمخزي أن ذات الجماعة التي “تلفحت” بثوب الثورة، تتحالف اليوم مع أكبر ميليشيا متهمة بجرائم ضد الإنسانية، وتقايض دماء الأبرياء بحصة في التسوية السياسية، هل نسي “سلك” هذا الهتاف :”جنجويد رباطة .. وقتلونا معروفين لوحاتهم ق د س”؟..
ترى، هل هنالك سقوطٌ أخلاقي أعمق من هذا؟…
فهل يحق لمن يتشدق بالمدنية، أن يعبر لجهاز الدولة على جثث المحروقين والمغتصَبين؟.. أي سلطةٍ هذه التي تُطلب من فوهة البنادق لا من صندوق الاقتراع يا سلك؟.. وأي “تحول ديمقراطي” يبدأ بتحالف مع ميليشيا متهمة بالقتل الجماعي والاغتصاب والحرق والنهب؟.
التحالف مع الدعم السريع ليس فقط رهانًا سياسيًا خاسرًا، بل إعلان صريح بأن الشعب ليس طرفًا في المعادلة.
فالتسوية، التي جاءت بخالد وقحت قديمًا ويُؤمَل فيها الآن، تقوم على المحاصصة لا الانتخاب، وعلى تقاسم النفوذ لا التفويض الشعبي الحُر.
أما أحمد هارون، وعلى الرغم من أن حزبه جاء عبر انقلاب 1989، فإن حديثه لوكالة رويترز يمثل تحولًا في الخطاب. حين يقول إن “الانتخابات قد تكون طريقًا للعودة”، فهذا يعني أن أدوات الأمس لم تعد صالحة لليوم.
ليس المطلوب أن نمنح الرجل وسامًا على ذلك، لكن من المهم أن نسجّل أن هذا اعترافٌ سياسي بأن شرعية ما بعد حرب الكرامة لا تُؤخذ بالقوة، بل تُطلب من الشعب.
القوة السياسية الوطنية كافة بما في ذلك الإسلاميون يسعون إلى خوض الانتخابات في بيئة نزيهة، بقانون عادل، وبرقابة كاملة، قد يخسرون وقد يفوزون، لكن في الحالتين سيكون الشعب هو الحَكَم.
يا سلك حين تتهم الجيش بأنه “يقاتل لأجل إعادة الإسلاميين”، فإن الوقائع تكذّب هذا الزعم، الجيش هو من أنهى حكم الإسلاميين في أبريل 2019، وهو من سلم السلطة لقوى مدنية، كانت “قحت” على رأسها، وهو من أعاد ضبط التوازن حين حاولت قوى مسلّحة مدعومة من الخارج أن تختطف الدولة.
الجيش ليس فوق النقد، لكنه لم يكن في يوم “واجهة للإسلاميين”، بل كان خصمهم في لحظة مفصلية من تاريخ السودان.
وإذا كان الإسلاميون اليوم يتحدثون عن “صندوق الاقتراع”، فمن غير المنطقي الزعم بأن الجيش يخوض هذه الحرب من أجل مشروعٍ انتهى قبل خمس سنوات، بل الجيش يقاتل لحماية الدولة من الانهيار الكامل على يد المليشيات.
ثم، هل سقطت الخرطوم على يد الإسلاميين، أم تحت أقدام مليشيا الدعم السريع؟.. من الذي أشعل الحريق، ونهب الوزارات، ودمّر الجامعات، وأحرق المستشفيات والمدارس؟ .. وأين كان خالد سلك حين كانت مدن السودان تُباد وتُغتصب وتُحرق؟.. كان يجلس في طاولة للاتفاق مع الميليشيا في أديس أبابا…



