كتب هاني الكبيسي
إذا كنت من المهتمين عمومًا بجرائم “الإنسان” في الحروب، وخصوصًا بدور الأطراف الخارجية في “الإبادة الجماعية” بالسودان، أنصحك ليس فقط بقراءة التحقيق الحصري “الطويل” المنشور اليوم في جريدة ‘الغارديان’ البريطانية، وإنما بـ”التأمّل” في تفاصيله ومغزاه. وكما اعتدت شخصيًا في مثل هذه الموضوعات “الحيّة” (رغم أنها تدور حول الموت)، فسأحاول أن استعرض أهم ما وجدته في التقرير، بإيجاز -قدر المستطاع. (*رابط التقرير في أول تعليق)
يكشف التحقيق جانبًا من الدور “المريب” للإمارات في الحرب الأهلية السودانية، وتشابكاته مع أطراف “غربية”، بدافع التواطؤ لتحقيق مآرب سياسية أو “التعامي والاستهبال” لتحقيق مكاسب مالية -بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية أو الإنسانية، وبعيدا عن تنظيرات “القوانين والمعاهدات الدولية”.
إذ يعتمد تقرير ‘الغارديان’ بالأساس على وثائق قُدمت لمجلس الأمن الدولي تُثبت بالأدلة والبراهين أن “معدات عسكرية بريطانية الصنع” تم تصديرها لدولة الإمارات، قد استُخدمت من قِبل ‘قوات الدعم السريع’ (RSF) بزعامة محمد حمدان دقلو (الشهير بلقب حميدتي)، وهي الميليشيا المتهمة رسميا بارتكاب “جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي” في السودان.
الأدلة الدامغة: أسلحة بريطانية في الخرطوم
قدّم الجيش السوداني وجهات أخرى (وُصفت بأنها مستقلة) إلى الأمم المتحدة “ملفين من المواد والوثائق”، مؤرّخين بيونيو 2024 ومارس 2025، تظهر فيهما بيانات المعدات العسكرية البريطانية التي استخدمتها قوات الدعم السريع في مسرح المعارك في الخرطوم وأم درمان، والتي يظهر أنها جاءت مباشرة من الإمارات، ما يوفّر “دليلا إضافيا على الدعم العسكري الإمارات لميليشيا حميدتي في ارتكاب جرائم حرب”. ووفقا لتلك الوثائق، فقد شملت المعدات التي تم العثور عليها في ساحات القتال المذكورة:
أنظمة استهداف الأسلحة الصغيرة (Small Arms Targeting Systems): من إنتاج شركة Militec ومقرها ميد غلامورغان، في ويلز بالمملكة المتحدة.
محركات بريطانية الصنع لناقلات الجنود المدرعة.
وقد أثارت هذه المعلومات تساؤلات لدى “اللجنة الدولية” حول “انتهاك” الشركات البريطانية -وكذلك الحكومتين البريطانية والإماراتية- مبادئ المعاهدات الدولية المنظّمة لقوانين “الاستخدام النهائي لصادرات الأسلحة المخصصة لأغراض دفاعية”. فضلًا عن أن الأدلة الواردة في الملفّيْن توضّح أن الإمارات استمرت في الحصول على تراخيص التصدير من بريطانيا، حتى بعد الكشف عن وجود هذه المعدات العسكرية في السودان، ما يعزّز فرضيات ضلوع هذه الدولة الخليجية في “دعم” قولت الدعم بالعتاد والسلاح، رغم نفي الإمارات المتكرر لهذه الادعاءات!!
إذ تشير البيانات إلى أن الحكومة البريطانية أصدرت 26 ترخيصًا للتصدير الدائم للإمارات لمعدات عسكرية من فئة “ML14” التي تصنّعها شركة Militec، خلال الفترة بين يناير 2015 وسبتمبر 2024.
ووفقا لتحقيق ‘الغارديان’، فإن “أكثر ما يثير الريبة” هو أنه في 27 سبتمبر 2024 -أي بعد ثلاثة أشهر من استلام مجلس الأمن صورًا ومستندات تدعي العثور على معدات ML14 في السودان- أصدرت حكومة لندن “رخصة تصدير فردية مفتوحة” لنفس الفئة من المعدات العسكرية إلى دولة الإمارات، وهو ما يسمح بتصدير “كميات غير محدودة” من المعدات “دون الحاجة إلى مراقبة دقيقة لوجهتها النهائية”.
وتُظهر الصور في الوثائق ناقلات أفراد مدرعة من طراز “نمر” Nimr Ajban APCs، التي تصنّعها مجموعة ‘إيدج’ Edge المملوكة لدولة الإمارات. وتُظهر إحدى الصور -في وثيقة يعود تاريخها لعام 2025- لوحة بيانات من محرك (موتور) Nimr APC تحمل علامة “صُنع في بريطانيا العظمى” بواسطة Cummins Inc (شركة أمريكية)، وتُشير إلى أن سنة التصنيع 2016. (**بعض الصور مرفقة بالبوست أدناه)
وعلى الرغم من أن تصدير هذه المحركات لا يتطلب ترخيصًا عسكريًا خاصًا، إلا أن التقرير يلفت الانتباه إلى أن الحكومة البريطانية كانت تعلم بحلول عام 2016 أن الإمارات قد أرسلت ناقلا جنود من طراز “نمر” Nimr APCs إلى الخارج، في انتهاك صريح لقرار “حظر توريد الأسلحة” الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا واليمن.
وقد أثارت هذه الأدلة شكوك المنظمة الدولية بشأن مسؤولية بريطانيا و”تواطئها” المحتمل في “تأجيج الحرب الأهلية” في السودان، والتي أدت حتى الآن -حسب تقديرات الأمم المتحدة- إلى مقتل ما لا يقل عن 150,000 شخص، ونزوح أكثر من 12 مليون شخص، وترك ما يقرب من 25 مليون شخص في حالة مجاعة.
وعن ذلك يقول ‘مايك لويس’ العضو السابق في فريق خبراء الأمم المتحدة المعني بالسودان: “المملكة المتحدة ملزمة بشكل مباشر وفق قانون المعاهدات الحكومية بعدم السماح بتصدير الأسلحة حيث يوجد خطر واضح من إعادة تصديرها أو استخدامها في جرائم دولية”. ثم يتابع “لقد وثّق محققو مجلس الأمن بالتفصيل تاريخ تورط الإمارات لعقدٍ من الزمان في تحويل الأسلحة المستوردة إلى دول محظورة وإلى ميليشيات تنتهك القانون الدولي”.
وبينما تؤكد بريطانيا أن لديها “واحدة من أقوى أنظمة مراقبة الصادرات وأكثرها شفافية في العالم”، فإن الأدلة المقدمة إلى مجلس الأمن تثبت أن ثمة “فجوات” وربما نوعا من “التواطؤ” سمح بوصول الأسلحة البريطانية إلى قوى متهمة بارتكاب جرائم حرب في السودان عبر “وسيط تحكمه الأجندات السياسية لا الأخلاق أو الضمير الإنساني”.
ولأن التواطؤ بالتواطؤ يٌذكر، فلا أستطيع أن أمنع نفسي (الأمّارة بالسوء) في هذا السياق، من الإشارة لتقرير تداولته المواقع العبرية -أمس الإثنين- عن موافقة الحكومة الإسرائيلية على إنشاء فرع لشركة ‘كونتروب للتقنيات الدقيقة’ (Controp Precision Technologies Ltd) في دولة الإمارات العربية المتحدة، في خطوة أمنية وتكنولوجية هي “الأولى من نوعها منذ توقيع الاتفاقات الإبراهيمية” – على حد تعبير مانشيت إحدى الصحف الإسرائيلية.
وفي التفاصيل، سيعمل الفرع الجديد للشركة، والذي سيحمل اسم Controp (UAE) Limited، ضمن منطقة التجارة الحرة في أبوظبي (ADGM)، وسيكون مملوكًا بالكامل للشركة الإسرائيلية الأم. وتأتي هذه الخطوة استجابة لطلب إماراتي متزايد على أنظمة المراقبة الكهروضوئية المتقدمة للحماية البحرية والجوية. وتبلغ الاستثمارات المبدئية في المشروع نحو 30 مليون دولار، وسيترأس الفرع مدير عام إسرائيلي مع بقاء السيطرة الكاملة على القرار في تل آبيب.
انتهى الخبر .. وليبدأ التأمّل
