النزعة العرقية في قوات الدعم السريع السودانية والحزام العربي الساحلي في أفريقيا (1-3)

تتناول دراسة مستفيضة ومعمقة أعدها الباحث ياسر زيدان ظاهرة أطلق عليها مصطلح “الارتزاق العرقي” إلتصقت في معناها ومبناها بتكوين وسلوك مليشيا الدعم السريع في السودان والمجموعات المتمردة في دول منطقة جنوب الصحراء، إذ يتم التجنيد فيها ضمن إطار عرقي “قبيلي” في دائرة هي أضيق من الارتزاق، فهو يقوم علي الفزع والنصرة القبلية العرقية إضافة إلى الكسب المادي، وهو يختلف عن الارتزاق المادي المدفوع الأجر مسبقاً، والذي ينتهي بانتهاء المهمة ولا يتعداها إلى السرقة والنهب والتقتيل والانتقام العرقي والتشفي الذي يتواصل حتي بعد السيطرة على منطقة ما !!

ويقول الباحث إن الحرب الدائرة في السودان كشفت عن هذه الظاهرة الجديدة التي تتمثل في انضمام أفراد من قبائل عربية إنطلاقاً من “حزام البقارة العربي” في تشاد وليبيا والنيجر إلى قوات الدعم السريع في حربها ضد القوات المسلحة السودانية. لذلك كان مبحث التقرير في الأسباب الجذرية لهذه الديناميكية الجديدة للمرتزقة الناشئة في السودان، وما إذا كانت الشبكات العرقية قد عززت عملية التجنيد.

ويشرح الباحث بأن عملية استخدام قوات المرتزقة ذات تاريخ طويل في أفريقيا، وقد اكتسب المرتزقة نفوذًا متزايدًا في الآونة الأخيرة، حيث أقرت – وإن لم تقله شفاهة – الحكومات في جميع أنحاء أفريقيا أن جيوشها غير قادرة على احتواء النفوذ المتزايد للجماعات المسلحة. إلا أن الجدير بالملاحظة هو أن الدراسات الحالية حصرت تجنيد الميليشيات عبر الحدود في الإرهاب، غالباً وتجاهلت إلى حد كبير التكوين الجديد للارتزاق العرقي المتنامي اليوم في منطقة الساحل.

ويجادل الباحث بأن تجنيد الميليشيات العربية عبر الحدود لا يمكن تفسيره بالكامل من خلال منظور مكافحة الإرهاب، أو الهجرة، أو الأيديولوجية وحدها، بل إنه يعكس عسكرة المجتمعات الرعوية العربية في ظل انهيار الدول، وازدياد الضغوط البيئية، وهياكل الفرص العابرة للحدود.

وتضع الدراسة قوات الدعم السريع ضمن أنماط أوسع من اقتصاديات الحرب والحوكمة القبلية في منطقة الساحل، وتسلط الضوء على الحاجة إلى إطار عمل جديد لفهم الميليشيات غير النظامية التي تتجاوز الحدود الوطنية والأيديولوجيات الرسمية ونماذج التمرد التقليدية. وفي حين حصرت الدراسات المعاصرة تجنيد الميليشيات عبر الحدود في الإرهاب، إلا أنها لم تتناول التجنيد على أساس عرقي ولم تدرَسه بشكل كافٍ في السودان ومنطقة الساحل. تُشكّل هذه الظاهرة الجديدة تحديًا للحدود الوطنية في منطقة الساحل وتهدد الأمن الإقليمي والدولي.

وقد أشار بعض المحللين إلى أن “آيدلولجيا الهيمنة والتفوق العربي” كانت هي القوة الدافعة وراء التجنيد على أساس عرقي؛ في المقابل، تُجادل هذه الدراسة البحثية بأن عوامل متعددة ساهمت في تجنيد قوات الدعم السريع لمقاتلين عرب غير سودانيين في الحرب الدائرة.

ولكن الذي لا مراء فيه هو أن أيديولوجية التفوق العربي، والنزاعات على الأراضي، والتصحر، والتدخلات المحلية والإقليمية، ساهمت جميعها في بروز ظاهرة الارتزاق العرقي في منطقة الساحل.

و يقول الباحث إن العوامل المعقدة التي أنتجت المرتزقة الحاليين على أساس عرقي في السودان وتشاد والنيجر تستدعي نهجًا دقيقًا لا يستدعي فقط العوامل الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، بل أيضًا الديناميكيات الاجتماعية والأمنية المعاصرة التي شكلت الأوضاع الراهنة في منطقة الساحل.

وقد أدى تتبع الأسباب الجذرية العديدة وراء الميليشيات العرقية بين الدول إلى نظرية بديلة تُشير إلى أن انشغال الدول بفرض السيادة قد ساهم في تسهيل قيام مناطق غير خاضعة للحكم في دول مثل السودان وتشاد. وقد أدت سياسات الحكومات لتسليح فئات محددة من الجماعات العرقية إلى إضعاف السلطات القبلية القديمة التي سادت في هذه المناطق لعقود.

كما ألقت الدراسات الأكاديمية بعض الضوء على الميليشيات المرتبطة بالدولة والشبكات الإرهابية بين الدول في منطقة الساحل. إلا أنه لم يُبذل الكثير لاستكشاف الروابط العرقية المعاصرة بين الميليشيات العربية، وقد تجلت هذه الروابط القبلية العربية خلال الحرب الحالية في السودان، حيث استخدمت الميليشيات مقاتلين من دول أخرى في هجماتها العسكرية. وقد تكررت هذه المواضيع والممارسات في الحرب الأهلية في ليبيا وتشاد والنيجر. ويُمثل هذا ظهورًا ملحوظًا للديناميكيات الاجتماعية القديمة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى:

إن الديناميكيات التي نراها في هذه الصراعات متجذرة في الهجرات العربية الناجمة عن الجفاف والنزوح القسري منذ القرن الرابع عشر.

وتدعو الدراسة إلى زيادة التركيز على كيفية تقاطع الهوية والبقاء والرعاية الأجنبية لإنتاج نمط ساحلي مميز من الارتزاق – نمط يتحدى الافتراضات المتعلقة بسيطرة الدولة، والولاء، وتنظيم العنف في الحروب الأفريقية المعاصرة.

مصادر الدراسة:

 

تستند هذه الدراسة إلى ملاحظات ميدانية ومواد أولية جُمعت خلال الأسابيع الأولى من صراع عام 2023 في السودان. كان المؤلف حاضرًا في الخرطوم عندما اندلعت الاشتباكات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لأول مرة في أبريل 2023. خلال هذه الفترة، أُجري محادثات غير رسمية مع مدنيين، وعاملين في المجال الإنساني، وأفراد تربطهم صلات وثيقة بمقاتلي قوات الدعم السريع، مما وفّر وجهات نظر مباشرة حول تعبئة المجموعة وسلوكها. بالإضافة إلى ذلك، أُجري مقابلات شبه منظمة (عن بُعد) مع قادة المجتمع المحلي، والسكان المتضررين من النزاع، الذين تم تحديدهم من خلال أخذ عينات هادف وعينات متدرجة.

واستُخلص رؤى إضافية من الرصد المنهجي لمنصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تيليجرام وفيسبوك، حيث انتشرت محتويات وشهادات مرتبطة بمليشيا الدعم السريع على نطاق واسع. ورُبطت هذه المصادر الرقمية بتقارير من وكالات أنباء دولية ودراسات أكاديمية سابقة.

استخدمت الدراسة أسلوب التحقق الأساس من المعلومات مفتوحة المصدر، والذي يحدد أولاً أصل المصدر، وهوية الشخص الذي رفع المحتوى، وتاريخ النشر، والروابط العرقية، والانتماء الحزبي المحتمل، ثم تحقق من الموقع الجغرافي للصور والفيديوهات من خلال مطابقة التضاريس، والمباني، والمعالم الدقيقة. وتُقرّ االدراسة بقيود وعدم حياد أدلة وسائل التواصل الاجتماعي والمقابلات، وبالتالي تستفيد من انخراط المؤلف طويل الأمد في سياسات منطقتي البحر الأحمر والساحل، بما في ذلك العمل الميداني السابق في شرق أفريقيا. ورغم القيود التي فرضتها قيود السفر في زمن الحرب وعدم رسمية المصادر، فإن هذا النهج يُعطي الأولوية للتجذير التجريبي والقرب الظرفي. يدمج التحليل المقدم هنا وهذه الأدلة النوعية مع المصادر الثانوية لإعادة بناء الديناميكيات الاجتماعية والسياسية التي تدعم ممارسات التجنيد العابرة للحدود الوطنية لقوات الدعم السريع.

ويقول الباحث بأن الارتزاق العرقي والطبيعة المتغيرة للجماعات المسلحة وظهور قوات الدعم السريع كقوة عابرة للحدود الوطنية تدعو إلى إعادة النظر في الأطر القائمة في دراسة الجماعات المسلحة ، و إن التصنيفات التقليدية من قبيل المتمردين، والإرهابيين، وأمراء الحرب – لا تستوعب تمامًا البنية والوظائف الهجينة لمنظمات مثل قوات الدعم السريع.

ويشير الباحث إلى أن مفهوم “الارتزاق العرقي” المُعرّف هنا بأنه أسلوب من أساليب التعبئة المسلحة، يتم فيه توجيه التجنيد والتماسك بشكل أساسي عبر شبكات عرقية-قبلية عابرة للحدود الوطنية؛ وتكون الحوافز المادية كالأجور، والغنائم، والوصول إلى عائدات اقتصاد الحرب واضحة ؛ وتحافظ المجموعات على انفصالها عن أي دولة بحيث تخدم أو تقاتل بسهولة عبر الحدود وتُيسر العوامل اللوجستية الخارجية إضافة إلى الانتشار عبر الحدود – ذلك المفهوم يُتيح طريقةً تستغلها الجهات االمسيطرة التي تعتمد في الوقت نفسه على التضامن العرقي، والحوافز الاقتصادية، وعلى تفكك الدولة للعمل عبر سياقات سياسية متعددة.

وعلى النقيض من الارتزاق الكلاسيكي- شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة، والتي يتم تأطيرها من خلال اختبار المرتزقة الضيق المكون من ستة أجزاء في البروتوكول الإضافي الأول، المادة 47، والتي نادرًا ما يستوفي المتعاقدون معها هذا التعريف، فإن الارتزاق العرقي- “القبيلي” يركز على التجنيد عبر شبكات الهوية، والحوافز المادية الصريحة، والرعاية-أو التواصل عبر الحدود بدلاً من التعاقد مع الشركات وحدها. كما يختلف عن حكم المتمردين، الذي يفترض الإدارة الإقليمية للمدنيين – الضرائب، والعدالة، والخدمات – في حين يمكن للجهات الفاعلة ذات المصلحة القتال من أجل الأجر دون حكم الأراضي.

وخلافاً لأمراء الحرب، الذين يركزون على السيطرة الشخصية على الاقتصادات السياسية المحلية والأراضي، يعتمد الارتزاق العرقي- القبيلي على خطوط التواصل العرقية العابرة للحدود الوطنية واللوجستيات الخارجية مع ارتباط أقل بأي جهة إقليمية واحدة. وأخيرًا، بالنسبة للتمرد المدفوع بالأيديولوجيا، حيث تستند التعبئة على العقيدة أولاً.

يُوسّع مصطلح “الارتزاق العرقي” نطاق الأدبيات المتعلقة بالحروب الأهلية وحوكمة المتمردين، والتي غالبًا ما تُركّز على المتمردين الذين يسيطرون على الأراضي ويفرضون الحكم. وبينما لا تحكم قوات الدعم السريع بالمعنى التقليدي، إلا أنها تُوفّر خدمات أمنية ومكافآت اقتصادية وقدرًا ضئيلًا من الهوية السياسية، غالبًا بفعالية أكبر من الدولة. يمزج هذا النموذج بين خصائص بناء الدولة وريادة أعمال المتمردين والتجنيد القائم على الهوية

ولا تُحشد قوات الدعم السريع المقاتلين من خلال الأيديولوجية أو القومية فحسب، بل من خلال جعل الصراع مصدر رزق مُستدام. وهو شبيه بما وقع في العمليات المسلحة في تشاد، حيث لا ينظر الشباب إلى الحرب على أنها تعطيل للاقتصلد و قطع سبل العيش بل باعتبارها وظيفة ومهنة تدرة للدخل.

يتبع،،

Exit mobile version