بقلم: عبدالعزيز يعقوب – فلادلفيا
ayagoub@gmail.com
١٧ سبتمبر ٢٠٢٥
في عالمٍ تتداخل فيه القناعات مع السلوكيات، وتتشابك فيه القيم مع التقاليد، يُصبح فهم الإيمان، والإنسان، والعلاج أمرًا يتجاوز الوصف الظاهري إلى جوهر أعمق. فالإيمان، في حقيقته، لا يُقاس بمجرد اعتقاد نردده، ولا بسلوك نُظهره للناس، بل يقوم على ثلاثة أعمدة مترابطة: الاعتقاد، والإدراك، والمعرفة.
فالاعتقاد هو النواة الأولى، والركيزة التي ينطلق منها الإنسان نحو المعنى، لكنه يظل هشًّا إن لم يُدعَّم بالإدراك الواعي والمعرفة العميقة. والإدراك ليس مجرد الفهم الحسي، بل هو وعيٌ داخلي يشكّل العلاقة بين المعتقد والواقع. أما المعرفة فهي الوسيلة التي تُرسّخ هذا الإدراك وتمنحه بُعدًا عقليًا يتجاوز العاطفة العابرة. وعندما تجتمع هذه العناصر، يتشكل إيمانٌ راسخ، يصبح دافعًا للسلوك الأخلاقي لا نتيجةً له فقط.
ولعل من أطرف ما يُظهر خلل الفهم الشائع للإيمان، قصة حقيقية حدثت في السودان، زار أحد الأوروبيين البلاد، فأراد بعض الشباب أن يُكرموه على طريقتهم، فقدّموا له أفخر أنواع الشراب المُسكر – محلي وأجنبي – فاعتذر بلطف بأنه لا يشرب الكحول. لم يتوقفوا، بل عرضوا عليه شيئًا من الحشيش، فاعتذر مجددًا. عندها سخر أحدهم قائلاً: “إنت كافر لِشنو؟!”
في هذه الطرفة يتجلى الخلل الجوهري في وعي بعض الناس، حين يظنون أن من لا يؤمن بدينهم لا يملك ضوابط أو قيمًا، وكأن الكفر – في مخيّلتهم – مرادف لانعدام الفضيلة. فحين رفض الزائر شرب الكحول وتعاطي الحشيش، كان سؤالهم الساخر مريبًا في الوقت نفسه: “إنت كافر لشنو؟!”، وكأن الكفر لديهم لا يُفهم إلا كترخيص للفجور والرذيلة.
وهكذا، تتحول الطرفة إلى مرآة لا نضحك فيها من الآخر، بل نرى انعكاسًا لتشوّشنا في فهم المعنى الحقيقي للإيمان، ولغياب التمييز بين التدين كقناعة أخلاقية، وبين سلوكيات ظاهرية تحكمها العادة أو التقاليد أو الرقابة المجتمعية.
ومن هنا يظهر دور علم النفس الإكلينيكي في إعادة بناء الإنسان من الداخل، لا بوعظه أو تقويمه، بل بمساعدته على فهم نفسه. وأحد أبرز أدوات هذا الفهم هو العلاج بالدراما (Dramatherapy) والفن ، الذي يُستخدم كوسيلة علاجية فعّالة في التعامل مع الصدمات النفسية، والقلق، والاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة، خاصة في البيئات المتأثرة بالكوارث الطبيعية أو الحروب والاضطراب الاجتماعي.
يقوم العلاج بالدراما على مبدئين أساسيين:
1. إتاحة مساحة آمنة للتعبير، فتح المجال للتعبير بحرية، دون منع أو كبت أو أحكام مسبقة. فالحديث عن الوجع، حتى بلغة رمزية أو ساخرة أو تمثيلية او رسم او ل ن او ترتيل ديني او تلاوة خاشعة ، هو في ذاته عملية تطهير نفسي (Catharsis) تُحرّر الطاقة المكبوتة.
2. إعادة تشكيل الإدراك المعرفي، وذلك من خلال أداء أدوار مختلفة وتمثيل مواقف حياتية،او رسومات او نشاط روحي او رياضي يمكن للفرد أو المجتمع أن يُعيد النظر في تجاربه، ويكتشف أنماطًا جديدة للفهم والتفسير. هذا التمرين المعرفي–العاطفي يفتح الباب أمام بناء ذات أكثر توازنًا ووعيًا بذاتها ومتصالحة مع ذاتها ومجتمعها.
وهنا تتقاطع الفنون العلاجية والنشاطات الروحية والرياضية مع الإدراك؛ فالعلاج بالدراما لا يقف وحده، بل يتكامل غالبًا مع العلاج الإدراكي–المعرفي (Cognitive Therapy)، الذي يُعيد تشكيل الأفكار والتصورات الخاطئة لدى الفرد عبر تقنيات متنوعة: من التمثيل والرسم والموسيقى والألعاب التفاعلية والمناشط الروحية والرياضية، وصولًا إلى كتابة القصص أو إعادة سرد التجربة بصيغ فنية. ففي لحظة أدائية، أو عبر خط بسيط على ورقة، او لحن او تلاوة خاشعة قد يُعبّر الجرح عن نفسه أخيرًا… وقد تبدأ رحلة الشفاء.
وهكذا، كما يحتاج الإيمان إلى إدراك ومعرفة ليغدو حيًّا وفعّالًا، يحتاج الإنسان المجروح إلى أدوات تعبيرية تُمكّنه من التعافي، لا عبر النصيحة وحدها أو الوصاية، بل عبر المشاركة والانغماس في تجربة علاجية تُشبه الحياة نفسها: مشهدًا بعد مشهد، ودورًا بعد دور، حتى يعود إلى ذاته متصالحًا معها ومع مجتمعه.
في النهاية، سواء كان الحديث عن إيمانٍ أُسيء فهمه، أو عن وجعٍ كُبت تحت سطح الصمت، فإن الإدراك هو جوهر الرحلة، والمعرفة خريطتها، والحرية مسرحها المفتوح. ومن هنا، فإن الرسالة إلى أهل الدين، والطرق الصوفية، والمعلمين، وأهل الفنون والرياضة بكل فروعها، أن يشكّلوا معًا كتيبة تضميد المشاعر وشفاء القلوب. فهؤلاء جميعًا، كلٌّ من موقعه، هم المعنيون ببناء وجدان هذا الشعب، وبتحويل الألم إلى قوة، والجرح إلى إبداع، واليأس إلى رجاء. إنهم ليسوا مجرد مصلحين أو معلّمين أو فنانين، بل حملة رسالة شفاء جماعي، يحملون عبر المنابر، والزوايا، والمدارس، والمسرح، والموسيقى، والرياضة والمشهد التشكيلي، نورًا يبدّد عتمة الحرب، ويزرع في النفوس بذور الطمأنينة والتعافي.
