الصفقة الكبيرة الخاسرة (3-7) انقلاب حميدتي-البرهان، والدور الروسي

التيجاني عبد القادر حامد

23 يوليو 2024

رغم أن الفريق حميدتي وقادة قوى الحرية والتغيير (قحت) كانوا شركاء في حكومة الإئتلاف برئاسة حمدوك، ورغم أن قادة “قحت” كانوا يقدمون له-ظاهرياً- فروض الطاعة والولاء، إلا أن الفريق حميدتي لم يكن يطمئن لهم، أو يبادلهم الاحترام. بل كان يصرح في أكثر من مناسبة بأن قادة (قحت) لا يملكون سنداً شعبياً حقيقياً، وليست لهم خبرات في إدارة الدولة، وكان يتهكم من إدارتهم للاقتصاد (خاصة وزارة التجارة) فيقول عنهم-ساخراً- “زول عنده دهب يمشي يشحد”، ثم يهددهم ويتوعدهم قائلاً: “نحنا تاني ما بنداري، مالنا ومالهم، عندنا معاهم شنو، وتاني الأعور نقول ليه أعور في عينه”، بل وكان يذهب أحياناً إلى القول بأنهم يتلقون رواتبهم من السفارات الأجنبية. وتفاقمت الخلافات بين الشريكين، حتى بلغ الأمر حد القطيعة فانقلب عليهم (هو والفريق البرهان) في 25 أكتوبر 2021- واضعاً بذلك حداً للائتلاف الحاكم. ولم يكن مستغرباً أن أول قرار داخلي يُتخذ بعد الإطاحة بحكومة حمدوك هو تجميد ملف فض الاعتصام-الملف الذي كان يقض مضجعه. أما القرار الآخر-والذي ستترتب عليه آثار خطيرة، وسيقلب السياسة السودانية رأساً على عقب، فهو إدارة الظهر لمجموعة الرباعية، والتوجه نحو روسيا. فهل كان للمخابرات الروسية علم بالإنقلاب؟ وهل كان الفريق حميدتي يعمل بالتنسيق معها-كما تدل على ذلك بعض المؤشرات؟   

إن أول المؤشرات على ضلوع الروس في الانقلاب هو التعاون الوثيق سبقاً بين مؤسسة فانغر وقوات الدعم السريع، علاوة على اهتمام القيادة الروسية بالفريق حميدتي شخصياً؛ إذ وجه إليه الرئيس بوتن دعوة لزيارة موسكو. وفي 23 فبراير 2022 (أي بعد ثلاثة شهور فقط من انقلاب 25 أكتوبر 2021، وقبل يوم واحد من الحرب الأوكرانية)، قام الفريق حميدتي بزيارة معلنة إلى روسيا يرافقه وفد كبير ضم وزراء المالية والزراعة والتعدين. كان الرئيس بوتن حينئذ يتهيأ لحربه ضد أوكرانيا (24 فبراير 2022)، وكان يبحث عن موطئ قدم على البحر الأحمر، ليسهل من خلاله التواصل مع نقاط ارتكازه في العمق الأفريقي، ويضمن من خلاله انسياب الذهب والمعادن فيسد نقص العملات الأجنبية بسبب الحظر المفروض على صادراته. ولم يكن خافياً على المراقبين أن روسيا كانت-وما تزال- تسعى بكل الطرق لتعزيز نفوذها في القارة الأفريقية كلها، إذ أن لها مشاريع واتفاقات أمنية وعسكرية واقتصادية كانت تقوم عليها مؤسسة “فاغنر” ذات الصلات السابقة مع قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي. كما أن روسيا كانت-وما تزال- تطمع في الاستثمار في قطاع المعادن في السودان، وهو قطاع تتمدد فيه قيادة الدعم السريع من خلال شركة الجنيد وغيرها. وقد أثارت زيارة حميدتي إلى روسيا قدراً كبيراً من الاستياء في الأوساط الأمريكية والأوروبية.

على أن الرغبة الروسية في إنشاء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر لم تكن جديدة، بل تعود إلى تفاهمات واتفاقات سابقة. وقد ظلت الحكومات السودانية تتردد في هذا الأمر، مما جعل الحكومة الروسية تبحث عن شخصية قيادية مغامرة، فوجدت صيدها في الفريق حميدتي، وصارت تراهن عليه لأسباب شبيهة بأسباب الرئيس السوداني السابق، وشبيهة بالأسباب التي جعلت المجموعة الرباعية تهتم به. فالحكومة الروسية- مستندة على تجربة مجموعة فانغر في السودان- كانت ترى في حميدتي نمطاً من الشخصيات “الظرفية” المغامرة التي يمكن أن تخرج على المألوف. وفي سياق هذا الصراع الجيو-اقتصادي بين روسيا والدول الغربية جرت الترتيبات لانقلاب 25 أكتوبر 2021، والذي لم تتأخر المصادر الغربية في القول بأن لروسيا دوراً فيه، رغم أن التقارير الرسمية أنكرت ذلك وأشارت إلى أن الزيارة جاءت في إطار تعاون عادي حول القضايا الإقليمية والدولية.

انقلاب حميدتي على روسيا

ولكن لم يمض نصف عام على انقلاب أكتوبر 2021 إلا وقد اتخذ الفريق حميدتي موقفاً مناقضاً لمواقفه الأولى، فبدأ يعتذر عن تدبير الانقلاب، ويتقمص شخصية المصلح الديموقراطي. وبدأت الشقة تتباعد بينه وبين الفريق البرهان، وتتقارب بينه وبين قادة (قحت) الذين كان بالأمس القريب يكيل لهم السباب. ثم بدأ يلقي عبارات الثناء على شباب الثورة، ويتحدث عن التحول الديمقراطي. هنا يحق لنا أن نتساءل: ما الذي جرى للفريق حميدتي في تلك الشهور الستة التي أعقبت انقلاب أكتوبر 2021؟ وكيف يُفسر انقلابه السياسي هذا على انقلابه العسكري الأول؟ هل حدثت له قناعة مفاجئة بالتحول الديمقراطي؟ هل بدأ يحس أن هناك مخاوف أمنية حقيقية تحيط به؟ هل مُورست عليه بعض الضغوط والتهديدات؟ إن طرح هذه الأسئلة-ومحاولة الإجابة عليها- سيساعدنا في فهم التحول المفاجئ الذي طرأ على مسار الفريق حميدتي، وعلى مسار السياسة السودانية من بعد.

لقد لاحظ كثير من المراقبين هذا الانقلاب الكبير الذي وقع في مواقف الفريق حميدتي بعد زيارته لموسكو، وذهبوا في تفسيره مذاهب شتى. سارع بعض الصحفيين المتعجلين إلى القول بأن تصريحات حميدتي لا قيمة لها لأن بعضها ينسخ بعضاً. وأنها كسابقاتها، تعكس حالة التوهان والهرجلة والهضربة والاضطراب النفسي والصراع الداخلي الذي يعيشه، ويجعله غير حاسم لموقفه وانحيازه وقراءته الصحيحة للمشهد السياسي الراهن واتجاهاته المستقبلية.  وافترض آخرون أنه ربما أصابت الفريق حميدتي “صحوة ضمير”، فأخذ يراجع نفسه، ويعيد النظر في مواقفه السياسية، فصار يميل إلى الانخراط في مسار الانقلاب على الانقلاب، وتسليم السلطة إلى القوى المدنية في طبق من ذهب. وكل هذه في تقديرنا افتراضات حالمة، لأن التوبة عن الانقلابات والانعطاف نحو المسار الديمقراطي عمليات نفسية وفكرية لا تحدث فجأة، ولكن على افتراض حدوثها فإن التائب عن الانقلاب سيقدم استقالته فوراً ولا يتخندق في موقعه “الرئاسي” الذي دبر من خلاله الانقلاب، ولا يسير في اتجاه مزيد من العسكرة؛ كأن يزيد في أعداد المجندين، ويستقدم المزيد من الدبابات والراجمات والصواريخ المضادة للطيران-كما كان يفعل الفريق حميدتي في تلك الفترة. مما يجعلنا نميل إلى افتراض ثالث- ونسعى من ثم لإثباته في هذا المقال. الافتراض هو أن الفريق حميدتي لم يتعرض لصحوة ضمير وإنما تعرض لعملية تهديد وابتزاز من القوى الكبرى المناوئة لروسيا. وإلى جانب التهديد عرضت عليه “صفقة كبيرة” تتناسب مع طموحاته السياسية (وفق سياسة العصا والجزرة). فرضخ للابتزاز وقبل بالصفقة. ونتيجة لذلك ظهر التحول الكبير في مواقفه، وانعكس في تصريحات مدروسة صادرة عن تلك “الصفقة” الاستراتيجية التي أبرمتها معه تلك القوى. وبما أنه لم يكن في مقدوره أن يفصح عن تلك “الصفقة” (إلا للدائرة الداخلية لآل دقلو) فصارت تصريحاته تبدو لبعض الصحافيين كأنها “هضربة”، ولكن الحقيقة المؤسفة أن الصحفيين هم الذين كانوا “يهضربون”. فما هي إذن الصفقة؟

نواصل.

Exit mobile version