رشان اوشي
الجميع يتحدث عن اليوم التالي، عن الاقتصاد الذي يحتاج إلى قبلة الحياة، وعن الاستثمارات الأجنبية التي قد تتدفق يوماً ما، وعن إعادة الإعمار، وعن هندسة الشراكات السياسية، وعن شكل نظام الحكم المرتجى؛ لكن لا أحد يهتم ب”البنى المجتمعية” التي أصابتها الحرب في مقتل.
السودان بلد كُتب عليه أن يعيش داخل معادلة اجتماعية معقدة؛ مجتمع قليل العدد، موزع على جغرافيا شاسعة تتجاوز حدود الرؤية، تتقاطع داخله نظم القبائل والانتماء العشائري، وترتبط القبيلة بالأرض ارتباطاً يتجاوز علاقة إنتاج ورعي وزراعة. هذه البنى التقليدية شكلت، عبر الزمن، عقداً اجتماعياً موروثاً بعلاته، لكنه كان قادراً على حفظ الحد الأدنى من التوازن بين الجماعات.
ثم جاءت الحرب، فكسرت ذلك العقد تحت نير السلاح والخطاب المعبأ بالكراهية، وأطلقت سراح كل الشروخ الكامنة في الجسد الاجتماعي دفعة واحدة.
في سنار، منع الأهالي عودة معظم سكان قرى “الرزيقات” بعد تحرير المنطقة، لأن بعض أبنائهم استجابوا لخطاب المليشيا. لقد تشكلت ذاكرة جمعية جديدة، تقوم على إعادة تعريف الآخر باعتباره “الخطر الذي كان مختبئاً في الجوار”. إنها آلية دفاع اجتماعي، لكنها أيضا بذرة صراع طويل إذا لم تعد صياغة العلاقات الاجتماعية على أسس العدالة والمكاشفة.
وفي الجزيرة وسنار، بدأت قبل الحرب عملية تفكيك اجتماعي ممنهجة عبر ما عُرف ب”مؤتمر الكنابي”. استثمرت الإمارات عبر أذرعها في النزاعات المكتومة بين سكان الكنابي وأصحاب الأرض من المزارعين؛ فكان خطاب الاستقطاب مغلفاً بمطالب تبدو حقوقية، لكنه في العمق كان يستنهض النار من تحت رماد الصراع التاريخي. وعندما انخرط بعض أبناء الكنابي في صفوف المليشيا، كان ذلك استجابة لنبرة تستحضر إحساس قديم بالتهميش الاجتماعي، وتعيد صياغة العلاقة بين “الأصلي” و”الطارئ” داخل البنية الاجتماعية. وهكذا تحول الاحتقان إلى استثمار سياسي، فانهار التعاقد الهش الذي شكل لعقود بنية العيش المشترك.
وفي دارفور وكردفان، وصل التفتت الاجتماعي حداً جعل الجغرافيا الاجتماعية تتحول إلى “أرخبيل” من الجماعات التي تحرسها ذاكرة مثقلة بالثأرات، ذاكرة لم تتعاف أصلا من جراح عقود طويلة من النزاعات المتراكمة.
الجميع منشغل بتساؤلات الإعمار، لكن السؤال الذي يختبئ تحت الرماد هو الأكثر خطورة: كيف سيلتقي الناس حين يعودون؟
المناطق التي كان يعيش فيها الناس وفق توازنات دقيقة لم تعد كما كانت؛ القرى تغيرت، الأحياء تغيرت، والذاكرة تغيرت. وعندما يعود الناس، سيعودون محملين بما لا يقال في الخطب السياسية.
إن اليوم التالي الحقيقي يبدأ حين نعترف أن الحرب لم تخرب المباني فحسب، بل كسرت الأوعية التي تحتضن العقد الاجتماعي للعيش المشترك. وما لم نصلح هذه الأوعية، سيظل كل ما نبنيه معرضاً للانهيار من جديد.
محبتي واحترامي.
