د. أحمد الدعاك
أما وقد وقعت الواقعة، فالسودان اليوم في مفترق طرق، إما انزلاق تام في هوة الفوضى والضياع، أو انتزاع عصي لنشأة مستأنفة من براثن المستحيل. وكلا الخيارين يعتمدان في الأساس على الكيفية التي ستنتهى بها الحرب، وهي واحدة من احتمالات ثلاثة: أولاً؛ تفاوض تفرضه حالة توازن الضعف تنتج عنه معادلة سياسية يحافظ بها “الدعم السريع” على ما تبقى من قوته العسكرية وينال وضعية سياسية معترف بها دولياً، مما يعني إبدال الانهيار السريع للدولة السودانية بتحللها البطيء. ثانياً؛ انتصار مليشيا “الدعم السريع” وانهيار الجيش السوداني مما يترتب عليه ضرورة اقتلاع الدولة والثقافة والمجتمع السوداني من جذوره، كتكرار مأساوي لظاهرة اجتياح المحيط الرعوي للمركز الحضري الذي ميّز تاريخ دول الشرق وشمال إفريقيا، ليس بدءاً من اجتياح التتار لبغداد أو انتهاءً باجتياح القبائل العربية البدوية للدولة الموحدية في شمال إفريقيا. ثالثاً وأخيراً؛ الراجح وفق معطيات الواقع الآن، هو الانتصار الحاسم للجيش السوداني مما يضع الأساس الموضوعي لإستئناف مشروع البناء الوطني الذي تقاصرت النخبة السودانية للنهوض به منذ الاستقلال. لا بد من عقد مؤتمر قومي-دستوري تُمثل فيه كل القوى الوطنية من غير أي وساطة خارجية يستعاد بموجبه العمل بدستور 2005 وتُعين خلاله رأس دولة وفق ما يُقرّره الدستور مع تخصيص دور رقابي وإشرافي للمؤسسة العسكرية على مرحلة الإنتقال إذاً الحديث عن مستقبل للدولة السودانية الحديثة لا يستقيم إلا في حالة رجحان الخيار الأخير، وهو الانتصار الحاسم للجيش السوداني في هذه المعركة الوجودية التي يصعب التكهن بنتائجها النهائية، وذلك لأنها جاءت بدعاً عن كل الحروب. فالجيش السوداني الحديث نسبياً يواجه عدواً دوافعه وانفعالاته تنتمي لإنسان العصور الحجرية، فهي غريزية قحة لم تُهذّبها حضارة أو تُعقلها استنارة، مع بنية مؤسسية تنتمي للعصور الوسطى لطبيعتها القبلية وثقافتها الموغلة في الخرافة ورباطها القائم على العصبية، كآخر تجلٍ لنظرية ابن خلدون عن نشأة الدول وزوالها. أضف إلى ذلك، فإن “الدعم السريع” يمتلك منظومة إدارية وغطاء سياسي (قوى إعلان الحرية والتغيير) وتدريباً عسكرياً ودعماً دولياً ولوجستياً وعقلاً تخطيطياً ينتمي إلى العصر الحديث، فضلاً عن أدوات تكنولوجية، كالذكاء الاصطناعي، تنتمي لعصر “ما بعد الإنسان” بمصطلح فوكوياما. هذا التراكب المدهش للأزمان الذي يميز مليشيا “الدعم السريع” يجعل منها عدواً غير تقليدي، لن تأتي هزيمته إلا مع ترك عطوب شبه دائمة في وجدان الأمة السودانية وتركيبة السودان المجتمعية وبنية الدولة الحديثة فيه. لذلك، حتى في حالة انتصار الجيش الحاسم فإن تحقيق الاستقرار والحفاظ على الدولة ليس بالأمر اليسير، بل يعتمد بشكل كبير على طبيعة نظام الحكم الذي يعقب فترة الحرب وقدرته على مخاطبة القضايا الجوهرية المتعلقة ببسط الأمن، وبناء نظام بيروقراطي فاعل يقوم على معيار الكفاءة المحضة، وترسيخ حكم القانون وحماية الملكية، وإدارة الإقتصاد بالقدر الذي يُمكّن الدولة من توفير الخدمات الأساسية وإيجاد إطار مستقر يسمح بنمو المجتمع السياسي وتنظيم الممارسة السياسية ومؤسستها. ولكيما يتحقق ذلك لا بد أن يُوفر النظام السياسي أعلى درجة ممكنة لقوة الحكم وسلطته المركزية. ففي مثل هذه اللحظات المفصلية من تاريخ الأمم، فإن درجة الحكم أهم من نوع الحكم، فالسلطة يجب أن توجد وتركز أولاً قبل أن تُقيّد وتُوزّع. لكن التواضع على مثل هذه الخيارات العقلانية المفارقه لطبيعة الاجتماع السياسي يحتاج إلى توافر وعي كبير بطبيعة المرحلة وإرادة استثنائية قادرة على ترجيح الخيارات والمسارات المعززة لمشروع البناء الوطني وتغليب الإستراتيجي على المرحلي. كما يحتاج إلى تجاوز بعض المسلمات وتصحيح بعض المفاهيم المهيمنة على الخطاب السياسي. فأولى هذه المفاهيم المغلوطة هو الخلط بين مطلوبات بناء الدولة وحكم القانون من جانب والنظام الديمقراطي والعملية الانتخابية من جانب آخر. فكل مرحلة قد تأتي مستقلة عن الأخرى، بل ومعلوم أن بناء الدولة البيروقراطية القوية وترسيخ حكم القانون يجب في كثير من الأحيان أن يسبق إيجاد نظام ديموقراطي، وذلك لقصور النظام الديموقراطي الضعيف تكويناً والفوضوي طبعاً حتى في أرسخ الديموقراطيات، مما يجعل منه أقل النظم نجاعة لإنجاز مطلوبات الانتقال. فقد آن الأوان لتفكيك اختزال المشكل السوداني في غياب النظام الديموقراطي المستقر وتعدد الانقلابات العسكرية وقضايا الهوية. نعم هذه جميعاً مشكلات أضعفت من فرص نجاح بناء الدولة القومية الحديثة، فضلاً عن عطوب السودان التكوينية المتمثلة في حدوده المفتوحة على جوار فقير مضطرب ودولة قطرية ضعيفة أورثها نظام الاحتلال الإنجليزي وإدارته غير المباشرة ومناطقه المقفولة. لكن يبقى العامل الأهم من بين تلك العوامل هو الضعف التاريخي للدولة وعدم قدرتها المستعصي على ممارسة العنف المشروع لفرض القانون وتحصيل الموارد وإدارة التخطيط المركزي. وهذا الضعف البنيوي هو الذي أعاق النمو السياسي وانتهى لحالة تحلل الدولة التي تعد حرب أبريل آخر وأخطر تمظهراته والتي قد تعصف بكيانه بالكلية. الفرضية الثانية الخاطئة التي تستبد بالعقل السياسي السوداني مفادها أن المؤسسة العسكرية مهددٌ دائمٌ للعملية السياسية وليس من سبيل لتحقيق الاستقرار والنهضة إلا بإبعادها التام عن أي دور سياسي. هذا النموذج النظري مقبول في الدول القوية والديموقراطيات الراسخة، لكنه موغل في الطوباوية ومجانب لتجربة التاريخ القديم والحديث الذي يؤكد أن تجارب الإنتقال السياسي الناجحة لنظام ديموقراطي مستدام احتاجت في كثير من الأحيان لدور فعال تقوم به المؤسسة العسكرية كما في التجربة المكسيكية التي أعطى فيها الجيش دور المشرف والحامي لعملية الإنتقال. إقرأ على موقع 180 الدولة الدينية والعلمانية.. المستقبل لمن؟ المسلمة الثالثة الخاطئة تتبدى في عبارة “العودة للنظام الديموقراطي”. في حقيقة الأمر أن السودان لم يحكم بنظام ديموقراطي منذ تأسيسه، وما يطلق عليها تجارب ديمقراطية هي خليط من النظم الإرثية (Patrimonialism) أو الزبائنية (Clientelistic)، وهو نظام يقوم على مقايضة السلطة بتوفير إمتيازات وظيفية أو إقتصادية للنخب السياسية والزعامات الأهلية، وهذا ما يُفسّر العدد الهائل من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وتناسل الإدارات الأهلية والحركات المسلحة التي تعمل وفق هذه الصيغة الزبائنية التي تجلت في أوضح صورها في عهد “الإنقاذ”. وثمة مفارقة أن النظام الزبائني هو الأقرب للنموذج الديمقراطي، بل لا يخلو نظام ديمقراطي من درجة ما من الزبائنية، وعمل اللوبيهات في أمريكا أحد الأمثلة الشاخصة. وزبائنية نظام “الإنقاذ” هو الذي يفسر جزئياً استمراره لثلاثين عاماً وسقوطه عندما تراجعت قدرة السلطة على توفير الامتيازات المطلوبة للنخبة السياسية التي تضخمت بفعل الحراك الاجتماعي الذي أحدثته ثورة التعليم العالي، جنباً إلى سخط التيار الإسلامي الملتزم وانحيازه الصريح والمستتر لصف الثورة. فعندما سقطت “الإنقاذ” كان السودان قاب قوسين أو أدنى ليتحول من النظام الزبائني الموروث لنظام ديمقراطي مستدام مدعوم بمعدلات النمو العالية في مؤشرات التنمية البشرية، حيث ارتفع معدل التنمية البشرية بنسبة تفوق الـ 25% بين العامين 2000 و2020، كما ورثنا من “الإنقاذ” هجيناً من سلطة مركزية قوية نسبياً ونظام فدرالي آخذ في النضوج. بعد الثورة، سُرعان ما تبدّد الأمل وارتد السودان للنقيض الفعلي للنظام الديمقراطي، وهو ليس الاستبدادي كما يظن البعض، وإنما الموبوقراطية (نظام حكم الحشود) الذي تبنته “قحت” ازوراراً من المضي قدماً في تعبيد المسار الديموقراطي بعيد اختطافهم لثورة كان لهم فيها دور الممثل جيد الأداء. الاستقرار لن يتأتى إلا ببروز بنية سياسية جديدة قادرة على تجاوز الانتماءات الطبيعية القبلية والجهوية، ونفي دور العنف وتقييد دور المال في العملية السياسية، مع وجود تيارات سياسية تتبنى مشروعاً وفق السقف الوطني السوداني، وبأجندة برامجية، وأن تكون المرجعيات الفكرية والأيديولوجية بطانة لمشروع عملي معلق بالمستقبل ومتحرر من الماضي وعندما استبد “الدعم السريع” بالأمر دخل السودان مرحلة الكلبتوقراطية (حكم الإختلاس) وأصبح حميدتي هو زعيم اللصوص (thief-in-chief) الذي وضع يده على موارد البلاد ذهباً وزراعة وثروة حيوانية، وخبر السودان بحق عهد “النتل البدائي القذر” والإفقار الشامل حتى أوردنا موارد الإحتراب ونذر الفوضى الشاملة. فاستصحاباً للحال قبل اندلاع الحرب يتبين اتساع البون بين واقعنا السياسي والشروط الضرورية لتأسيس نظام ديموقراطي. لذا تعد المناداة بعودة النظام الديموقراطي بعد الحرب ضربة لازب هو ضرب من المزايدة والالتزام بمقتضيات الصحة السياسية في أحسن الأحوال، أما في حالة مجموعة “قحت” فهو استمرار لنهجها المعهود في التأرجح بين مطلقات رومانسية يستخدمونها لتحريك الحشود والهروب من الاستحقاقات الوطنية والتسويات الضرورية، وذرائعية فجة قادرة على التنازل عن كل المبادئ والثوابت الوطنية متى تبدأ في الأفق. فإذا تجاوزنا هذه المسلمات المعيقة، في تقديري، يمكننا إنجاز مشروع انتقال فعّال وصولاً لدولة المؤسسات وحكم القانون والديمقراطية المستدامة، وذلك بالتواضع على صيغة سياسية تراعي شروط الواقع وطبيعة الفترات الانتقالية. ومن مرتكزات هذه الصيغة، في تصوري، عقد مؤتمر قومي-دستوري تُمثل فيه كل القوى الوطنية من غير أي وساطة خارجية يستعاد بموجبه العمل بدستور 2005 وتُعين خلاله رأس دولة وفق ما يُقرّره الدستور مع تخصيص دور رقابي وإشرافي للمؤسسة العسكرية على مرحلة الانتقال. كما ينتخب المؤتمر مجلس حكماء يوكل له إجازة حكومة كفاءات مستقلة والمفوضيات. هذا الإطار السياسي المبسوط آنفاً قد يساعد في عبور عقبات الانتقال وتجنب خطر التفكيك والحرب الأهلية المتطاولة، لكنه بالقطع ليس كافياً لتحقيق نظام سياسي عادل وفاعل ومستقر على المدى الطويل، وذلك لن يتأتى إلا ببروز بنية سياسية جديدة قادرة على تجاوز الانتماءات الطبيعية القبلية والجهوية، ونفي دور العنف وتقييد دور المال في العملية السياسية، مع وجود تيارات سياسية تتبنى مشروعاً وفق السقف الوطني السوداني، وبأجندة برامجية، وأن تكون المرجعيات الفكرية والأيديولوجية بطانة لمشروع عملي زمني عقلاني معلق بالمستقبل ومتحرر من الماضي وجراحاته. فمن الطبيعي أن يعد بروز مثل هذه التيارات في الواقع السوداني ضرب من المستحيل، لكن القفزات النوعية قي تاريخ الشعوب دائماً ما تعقب قفزة في مستوى الوعي بأثر من إلهام عظيم كنبوة أو فلسفة، أو بمكابدة ألم عظيم كتجارب الحرب والتنازع، وأظن أن هذه الحرب التي نعيش ويلاتها ودمائها ودموعها إن لم تقدح فينا وعياً متجاوزاً لقصورنا التاريخي وتركز في روعنا إرادة صلدة لصياغة مستقبلنا المنشود فلن نكون جديرين بأن تبقى لنا دولة اسمها السودان.