الذكرى الثلاثون للابادة الجماعية في رواندا حان الوقت لإفريقيا لمحاسبة قوات الدعم السريع على الإبادة الجماعية في السودان

 

مبارك محجوب موسى

والعالم يحتفل هذا العام بالذكرى الثلاثون للإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، فإن أحد أهم الدروس والعبر التي كان ينبغي أن نتعلمها على مستوى العالم، هو أهمية وضع وتفعيل أجندة وآليات الإنذار المبكر لردع ومنع وقوع جريمةالإبادة الجماعية في المستقبل.

تشتمل هذه التدابير الوقائية، من ضمن جملة أمورأخرى، على الرصد الدقيق لجميع مظاهر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، والتي إذا تركت دون معالجة او تصدي بشكل ووقت مناسب ، قد تتفاقم لتنتهي في نهاية المطاف إلى حالة إبادة جماعية.

وفي هذا السياق ومن أجل هذا الهدف، وظفت الأمم المتحدة العديد من الباحثين والخبراء، عكفوا لتحديد عوامل الخطر الاجتماعية والثقافية وحتى النفسية المتفق عليها على نطاق واسع، والتي تحدد بدقة أن بلد معين أو مجموعة اجتماعية أو ثقافية أو عرقية معينة ، أصبحت دون غيرها، أكثر عرضة بشكل متزايد لخطر الإبادة الجماعية.

خلافاً لما تقدم، فان واقع الحال الماثل للاسف يكشف إن أنظمة وآليات الإنذار المبكر التابعة للأمم المتحدة المذكورة، لم تفشل فقط في منع وقوع الإبادة الجماعية في السودان، بل الأسوأ من ذلك، أنه عندما تم إثباتها من خلال تقارير وشخصيات دولية موثوقة، كما حدث في الجنينة في غرب دارفور منذ عام 2008 على سبيل المثال لا الحصر، فانه لم تتوفر في المقابل ، استجابة كافية أو إجراء سريع لمحاسبة مرتكبيها – الذين تم تحديدهم وتسميتهم بالفعل من قبل تلك الجهات – في تجاهل تام أو بالأحرى خيانة للضحايا الأبرياء لهذه الفظائع ولعائلاتهم.

ومن قبل ان الشئ بالشيء يذكر، قبل أيام قليلة، فان المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين، السيدة فرانشيسكا ألبانيز، كانت قد وصفت مؤخراً الوضع في قطاع غزة بصراحة وشجاعة تشكر عليها ، بأنه ليس “حربًا” بل “إبادة جماعية”. في ذات السياق فان الحالة السودانية، بشكل أو بآخر، ضحية مماثلة لسرديات مضللة ، حرمته في نهاية المطاق من الحق التوصيف العادل والموضوعي لمحنته التي المستمرة منذ ثمانية عشر شهرًا.

ولعله من المؤسف حقاًأن جهود السودان في حث المجتمع الدولى بتصنيف ميليشيا قوات الدعم السريع المتمردة على أنها منظمة إرهابية ومرتكبي جرائم إبادة جماعية لم تحقق نجاحاً يذكر، هذا التمنع لم يعق فقط الاصوات المنادية لوقف الإمدادات العسكرية واللوجستية والمرتزقة لهذه المليشيا المجرمة، من قبل الدول الإقليمية المجاورة والدول المشاركة في تأجيج الحرب، الانكأ من ذلك أنه شجع أيضًا الميليشيا على المضى قدماً في ارتكاب هذه الفظائع وفي وضح النهار.

ولكى نفهم منطلق هذه التمنع الدولي والاقليمي، يجب ان لا أن نتجاهل أن قوات الدعم السريع في حقيقتها “مدافع مستأجرة”، تعمل ببساطة وفي المقام الأول لخدمة أهداف بعض الرعاة الإقليميين والدوليين المؤثرين.

وفي مقابل ذلك، يستمر هؤلاء الرعاة المذكورون، بطريقة أو بأخرى، في المماطلة وعرقلة تصنيف الميليشيا ككيان إرهابي على شاكلة داعش وبوكو حرام، كلما إقتضى الأمر. وهو لعمري ما يجسد التحدي الماثل على الساحة الدولية، فاتحاً صندوق باندورا، المتمثل في إيلاء القوى العظمى الأولوية للمصالح السياسية والأمنية والاقتصادية على حساب ما يسمى بالعدالة الدولية.

لذلك فإن الوعود والالتزامات المتجددة والاحتفائية تجاه منع ومكافحة الإبادة الجماعية هنا وهناك، وضمان عدم حدوثها مرة أخرى كما حذث من قبل في رواندا أو في أي مكان آخر، ستفشل في أول محك، ولن تحقق الهدف المنشود ، ما لم يتبعها عمل وإجراءات مناسبةعلى الارض.

لقد تمت الاشارة الى هذه الفظاعات المؤلمة بشكل أكبر في أحدث تقرير لبعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، والذي خلص إلى أن مقاتلي ميليشيا قوات الدعم السريع الارهابية، حاولوا مع سبق الاصرار والترصد، ارتكاب إبادة جماعية للقضاء على المجموعات العرقية غير العربية في دارفور، وخاصة ضد مجموعة عرقية المساليت.

ويضيف التقرير كذلك أن ميليشيا قوات الدعم السريع المتمردة، اغتصبت ظلت تهاجم هذه المجموعات الافريقية في دارفور، وتهدد بإجبارهم على إنجاب “أطفال عرب”، مستخدمين شتائم عرقية خلال سلسلة هجماتهم عليهم.

النية المبيتة لقوات الدعم السريع لارتكاب الإبادة الجماعية ضد هذه القوميات، صرحت بها احد ابرز الموظفين الدوليين في هذا المجال؛ المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المعنية بمنع الإبادة الجماعية، السيدة أليس وايريمو أندريتو؛ ففي بيانها الصادر بتاريخ 5 يونيو 2024 ، اوردت بشكل لا لبس فيه، أن قتل عمليات المدنيين في ذلك الجزء من دارفور، كان بدوافع عنصرية بحتة؛ فقط بسبب لونهم وعرقهمع وهويتهم.

ببساطة مستصحبين ما صرحت به المسئولة الاممية أعلاه، ما الذي يمكن أن يتماشى ويتناسب وينسجم اكثر من هذا، مع التعريف الكلاسيكي والبسيط للإبادة الجماعية؟ والذي يقول أنها أي أفعال تهدف إلى تدمير مجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، كليًا أو جزئيًا.

وفي واقع الأمر، فإن المسؤولة الاممية الارفع في هذا المجال، قد أضافت في هذا السياق محذرة ” إن رد الفعل الضعيف فيما يتعلق بالإبادة الجماعية من قبل المجتمع الدولي، هو دون غيره الذي يقلل من أي تقدم يمكن إحرازه بشكل جماعي لمنع ارتكاب هذه الجريمة الأخطر” وهو لعمري صميم رسالة هذا المقال.

ففي واقع الحال، فإن التقاعس المذكور والصمت المطبق من جانب المجتمع الدولي، كان كافيًا لمنح مرتكبي الإبادة الجماعية من المليشيا الإرهابية، شيكًا على بياض لارتكاب المزيد منها في أجزاء أخرى من السودان، وبالتحديد في ولاية الجزيرة بوسط السودان، والتي كانت ولا تزال مسرحًا لحجم والوان من الفظائع والانتهاكات، لا نبالغ ان قلنا أن الحروب النازية نفسها لم تعرفها .

فحتى النازيون لم يقتلوا المدنيين العزل عن طريق دفنهم احياء كما حدث في الجنينة أو تسميم مصادر مياه الشرب عمدًا، كما يحدث الان في ولاية الجزيرة، وحشية تحول القرويين إلى عبيد، وتحولهم الى رهائن، فارضة فديات باهظة على اهالى الضحايا مقابل إستعادة حريتهم في مغادرة قراهم الى المجهول.

وفي هذا الصدد كشفت تقارير أن قوات الدعم السريع قتلت في قرية الهلالية وحدهاحتى الآن، ما يزيد 500 مدني بينهم نساء وأطفال في الهلالية، وان العشرات سقطوا رمياً برصاص المليشيا المنهمر، وهم يدافعون عن أعراض بناتهن أو اخواتهن ، والأشد إيلاما الأحاديث التى تواترات، بأن العشرات من النساء العزل، اضطررن إلى الانتحار، لحماية أنفسهن أو الهروب من عار الاغتصاب، من قبل هذه الذئاب الادمية المفترسة.

ومما يزيد الطين بلة، هو الشهادات والافادات المتطابقة والمقاطع الصادمة التي تشير إلى أن أسلوب عمل المليشيات منذ بداية الصراع كان ينتهج اسلوب الاستعباد والاسترقاق الجنسى، حيث اختطفت العشرات من النساء والفتيات تحت تهديد السلاح، من بيوتهن ومن وسط اسرهن في الخرطوم وأماكن أخرى، ونقلن مقيدات بالسلاسل واخفين قسرا في مناطق سيطرة المليشيا بنيالا بغرب السودان وحتى خارج السودان في غرب افريقيا، وعرضه للبغاء القسري في أسواق خاصة.

تتزامن هذه الوحشية والبهائمية في الجزيرة مع موجة جديدة من الحملات الانتقامية، أحرقت خلالها الميليشيا الارهابية وما تزال، أكثر من 40 قرية حول مدينة الفاشر في شمال دارفور، لإجبار الناجين الباقين على الفرار حفاظاً على سلامتهم؛ وهو جزء لا يتجزأ من مخطط تغيير الممنهج للطبيعة الديموغرافية ضد الشعب السوداني، التي ظلت المليشيات تمارسها في شتى بقاع السودان في اطار السعى لتأسيس دولة العطاوة ومملكة ال دقلو.

وفي هذا الصدد، أصدرت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، ببيان قالت من خلاله إنها تشعر بصدمة وفزع شديدين إزاء الإنتهاكات لحقوق الإنسان التى تشهدها ولاية الجزيرة في وسط السودان، (مطابقة)على حد قولها، للفظائع التى شهدناها في دارفور في العام الماضى ، بما في ذلك التطهير العرقي، والقتل، والاغتصاب الجماعي، والإرهاب، واضطهاد المدنيين الأبرياء، على سبيل المثال لا الحصر.

بل إن المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، توم بيرييلو، أن يأتي قبل بضعة أيام، وبعد أشهر طويلة من السرديات المضللة والمتحيزة حول طبيعة الصراع في السودان – لم يستطع ربما في مواجهة الأدلة الدامغة – الا أن يصرح في حسابه على منصةاكس قبل ايام قليلة، بأن التقارير التى تفيد بقيام عناصر مليشيا الدعم السريع بتسميم الأطعمة ومياه الشرب (مما أدى إلى مقتل مئات المدنيين بينهم نساء وأطفال في فرية الهلالية) بانها “صادمة للضمير” على حد وصفه.

لقد تحدثت الولايات المتحدة كثيراً وكذلك المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، عن جرائم الحرب في دارفور، لكنهم تحاشوا الاشارة الى الإبادة الجماعية على وجه التحديد. الا أن الأمر المثير للاهتمام حقًا، هو أنه حتى المبعوث الخاص للاتحاد الأفريقي لمنع جريمة الإبادة الجماعية وغيرها من الفظائع الجماعية، اختار طوعًا فيما يبدوا السير في ذات الفلك.

مبعوث الاتحاد الأفريقي أحمدا دينغ، الذي تقع تعزيز معايير المساءلة في جوهر ولايته، وفي أول بيان له بشأن السودان، بينما يعدد الكثير الجرائم الجسيمة التي ترتكبها قوات الدعم السريع في السودان، والتي ( إن شاء) يمكن أن تشكل في حد ذاتها، قرينة كافية Prime Facie لاستخلاص حدوث إبادة جماعية. خلافاً لذلك اختار المبعوث كما آخرين، عدم السير في هذا الاتجاه؛ بالامتناع عن استخدام مصطلح الابادة الجماعية ولو على سبيل التلميح ، رغم انها تشكل العمود الفقري الذي يؤطر ولايته المحددة.

إن التاريخ المعاصر قد كشف لنا كيف استغرقت فرنسا 27 عامًا كاملة لتعترف رسميًا بذنبها في الإبادة الجماعية التى حدثت في رواندا، أما هولندا فتمنعت لمدة 27 عامًا أخرى، حتى تخضع وتعتذر للبشرية عن فشلهاغير المبرر في منع وقوع الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا، وبالمثل، ألمانيا من الجانب الاخر، فعاندت بدورها لمدة 113 عامًا ، قبل ان تعود وتعتذر ل عن الإبادة الجماعية الوحشية في ناميبيا. ومن هنا نقول إن الله وحده عز وجل ، هو الذي يعلم لا يعلم كم من السنوات يجب أن تمر، قبل أن يعتذر الاتحاد الأفريقي لشعب السودان، عن الوقوف في الجانب الخطأ من التاريخ؛ بالتهرب من تسمية الفظائع التى ترتكبها مليشيا الدعم السريع في السودان حالياً باسمها الحقيقى باعتبارها جرائم ضد الانسانية وجرائم ابادة جماعية مكتملة الاركان ومعاقبة مرتكبيها، عوضا عن تقديمهم كشركاء سلام.

Exit mobile version