عامر حسن عباس
سبق لنا الكتابة عن المشروع الأمريكي المعادي لوحدة ونماء السودان ومحطات الاستهداف المستمرة وكانت ذروة كل ذلك الاستفادة من المشكلات والخلافات الداخلية وتوظيفها لاستغلال الغفلة التاريخية لأجهزة ومؤسسات الدولة السودانية وإشعال حرب الخامس عشر من أبريل 2023 فهو مشروع امريكي غربي بامتياز حُشد له الدعم من جيوب الحالمين بأوهام الدولة الاقليمية في الامارات العربيه المتحدة .
مرّت الحرب بمراحل عدة أوّلها الإنقلاب في صبيحة 15 ابريل لاستلام السلطة سريعا وتطويع المشهد بضربة قاضية وثانيها العمل علي كسر ظهر الجيش السوداني بالحصار الشامل علي وحداته ، والهجوم المتواصل في الميدان مع فتح منبر تفاوضي في مدينة جدة السعودية برعاية حصرية أمريكية سعودية تمت فيه مساومات مريرة وجارحة لكبرياء الشعب والجيش السوداني لكنها فشلت بتمسك الجيش بالجذرة التي قدمت في اتفاق القضايا الإنسانية يوم 11-13 مايو 2023 وكان الهدف من الجذرة إعطاء قيادة الدولة السودانية غطاء يبرر الاستسلام للمشروع الأمريكي وتمرير سيطرة التمرد المسلح كأمر واقع علي الدولة والمواطنين لكن إلطاف الله بالسودان وإرادته والتصرف الحكيم لقيادة الجيش أفشل الخطة المرحلية التي كانت ستليها المساومة بتسليم السلطة بالكامل للتمرد وظهيره السياسي لتمرير كامل المشروع الغربي في السودان.
ثم كانت المرحلة الثالثة وهي إشاعة حالة الحرب بتعزيز الانتهاكات ضد المدنيين وتوسيع رقعة الحرب في عموم السودان وإفقار الدولة والشعب بالتوازي مع استمرار عرض الاستسلام المتدرج عبر منبر جدة نفسه بالدعوة لفتح حوار سياسي تُشارك فيه قوي الحرية والتغيير باسمها الجديد (تقدم) ، وعبر منبر الإيقاد و مفاوضات المنامة السرية وكل ما رشح عن هذه المنابر يؤشر لحجم الضغط الشامل علي الحكومة والجيش السوداني للقبول بحلول المساومة المرة والخطيرة في آن واحد .
لقد كانت ذروة هذه المرحلة الضغوط العلنية المستفزة لإحضار الجيش لطاولة اجتماعات جنيف في يوم عيد الجيش 14 اغسطس الماضي وراهنت الإدارة الأمريكية علي التهديد والوعيد الإعلامي وعلي تصعيد العمليات في الميدان واقتلاع مدينة الفاشر لفرض التقسيم علي الدولة إن هي استعصت .
لقد عودتنا الولايات المتحدة الأمريكية ومنظومة الدول الغربية طوال العقود التي تلت انهيار الثنائية القطبية علي التمسك النهائي بأهدافهم من التدخل الخارجي في شؤون الدول وهزيمة التماسك والممانعة بأساليب متعددة تؤدي لنفس الغرض .
لقد عاند السودان أهداف مشروع الحرب الحالية في عدة محطات لافته أولاها صمود القوات المسلحة في معركة دفاعية أسطورية واستعادة الأجهزة النظامية في الشرطة وجهاز المخابرات العافية بالتدريج للتماسك خلف الجيش في قتاله الشرس وغير المسبوق داخل العاصمة بالخرطوم وفي مؤسسات الدولة والمجتمع عموما ، وثانيها الاصطفاف الشعبي مع الجيش والاندفاع العفوي للقتال معه داخل وحداته الحيوية كأبرز مكسب استراتيجي وعملياتي في كل سيناريوهات الحرب في السودان ، وثالثهم الانحياز الوطني لحركات إتفاق جوبا وتمنعهم علي اغراءات الأمريكان ووكيلهم الإقليمي الإمارات العربية في الإنضمام لركب المليشيا المتمردة والذي جاء متدرجا بإلتحاق قوات مالك عقار ومصطفي تمبور بالجيش أولا ثم قوات مناوي وجبريل لاحقا.
لقد حطم العناد السوداني تجاه المشروع الأمريكي أيّ أمل للإنحناء خاصة عندما رفض الذهاب لاجتماعات جنيف السويسرية فأرسي بذلك أساسا لتغير الخطة الأمريكية واعتماد الخطة (ب).
تعتمد الخطة الأمريكية (ب) علي المحافظة علي الهدف الأساسي المتمثل في منع انتصار الجيش السوداني في حربه إلا علي قاعدة الاستجابة للمساومة الأمريكية والتي من أدواتها المحافظة علي القوى الخشنة للمشروع وهي حركات التمرد المسلح علي الدولة السودانية ولذلك حتي بعد نجاح التغير في أبريل 2019 واستلام السلطة التنفيذية بواسطة عملائها برئاسة عبدالله حمدوك ظلت تحتفظ بحركتي عبدالواحد نور في دارفور وعبدالعزيز الحلو في جنوب كردفان خارج منبر التفاوض وعملية سلام جوبا ، و بنفس القدر من المتابعة ظلت منذ اندلاع الحرب تراقب المسار وتحاصر إمداد الجيش في البحر الاحمر بواسطه دول عربية غارقة في وحل المؤامرة ، وبرغم كل ذلك كانت العودة القاسية المريرة للجيش السوداني لمرحلة التوازن في الميدان العملياتي وظهرت أول مخاوف الولايات المتحدة عندما فرضت المقاومة الشعبية المسلحة نفسها كخيار ضروري لحسم الحرب والكل راقب التحركات الإقليمية والدولية المدفوعة لمنع انخراط ونجاح المقاومة الشعبية وكانت لهذه التحركات للأسف نجاحا نسبيا مقدرا أفشل وحيّد هذا الخيار ولازال ، ويمكن ملاحظة ذلك في تقديم تجهيز وتجنيد قوات جديدة لصالح حركات إتفاق جوبا بدلا من التسليح المباشر للمواطنين في الولايات المهددة بحسب المرحلة الثانية من الحرب والتي أشرنا إليها في سطور هذا المقال فكانت النتيجة فقدان ولاية الجزيزة وسنار ومساحات كبيرة من ولاية النيل الابيض وجزء من النيل الازرق بجانب فقدان السيطرة علي فضاءات دارفور وكردفان الكبري خارج المدن الرئيسية المعروفة والتعرض لأسوأ ممارسات الحرب وهي إذلال الشعب السوداني في مدنه وقراه ونجوعه بالقتل والاغتصاب ونهب أملاكه وتخريب كل مؤسساته.
تظل الولايات المتحدة متمسكة بخطتها في منع الانتصار والاحتفاظ بالتمرد وقد لاحت لنا نواياها الآن من خلال تصرفاتها الجديدة بعد فشل جنيف والاصطدام بعناد الشعب السوداني الرافض لاي تسوية تعيد إنتاج المليشيا في مؤسسات الأمن القومي أو حتي علي مسرح الحياة السياسية من جديد وكان للرفض الشعبي وتمسك القوات المقاتلة في الميدان بخيار الشعب أثره الايجابي حتي في الضغط علي قيادة الدولة والجيش فتراجعت عن توسيع منبر جدة وانسحبت من منبر ومنظمة الايقاد بالتجميد للعضوية ونكصت عن إتفاق المنامة السري الكارثي واستقوت بالرأي العام في ممانعة الحضور لجنيف وفضحت بعد طول سكات الممول الإقليمي وقدمت الشكوى لمجلس الأمن الدولي ضد الإمارات العربيه ولولا الضغوط الشعبية والميدانية لما كان لهذا لصمود أن يؤدي للنتيجة التي يسعى الامريكان حاليا في الالتفاف عليها .
تبدت أولى محاولات الإلتفاف الأمريكي في اجتماع الفريق الأمريكي بقيادة مدير المخابرات المركزية الأمريكية وليم بيريز ومبعوثهم للسودان توم بيريليو مع السيد رئيس مجلس السيادة علي هامش الاجتماعات الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك وتهدف الخطة المرحلية للأمريكان في منع التقدم الملحوظ في إعادة و تحسين العلاقات السودانية الروسية والإيرانية علي حد سواء ومنع الاستحضار الايجابي للصين من جديد للساحة السودانية بعد سنوات من التخريب الممنهج للعلاقات الاستراتيجية السودانية والتي كانت أولي محطاتها الخطأ الكارثي للرئيس السابق عمر البشير في الاصطفاف خلف المملكة العربية السعودية في اليمن وقطع العلاقات مع إيران وفي عدم التجديد للشراكة الصينية في مشاريع النفط السوداني مضافا إليه كوارث الفترة الانتقالية المعلومة للجميع.
إن التحسن في حالة الإمداد العملياتي للجيش مرتبط بلا شك بالدعم الروسي الإيراني و كان لوقفه أصدقاء الأمس -الجزائر، قطر ،تركيا – التي لولاها لتأزم وضع الوحدات المقاتلة في الميدان ولإنكشف غطاء القوات الجوية الذي يمثل عصب العمليات وعمودها الفقري بلا ريب ودون إنقاص من المجاهدات الأسطورية لكل القوات علي الأرض.