الأحداث – عبدالباسط إدريس
عند اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ألهم الرئيس فلادمير بوتن، الملايين من السودانيين ومثلهم بالعالم الثالث الأكثر تعرضاً لمظالم النظم الغربية عبر حروبها وويلاتها، يومها قال بوتن، إنه يتطلع لإقامة نظام عالمي جديد، أكثر عدلاً من النظام الآحادي الظالم، وقتها كانت الخرطوم الرسمية وسلطة انتقال ما بعد التغيير، يممت وجهها إلى الضفة الأخرى، حيث الغرب وأمريكا ممنية نفسها بحصاد الوعود الوردية، فجف نهر التواصل مع روسيا قبل إعادة تنشيط العلاقات مؤخراً.
استدارة فاشلة:
خلال سنوات الحكم الانتقالي أدارت حكومة رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك ظهرها لروسيا الأمر الذي أوقعها في شباك “المحورية” التي أنكرتها الحاضنة السياسية للسلطة الانتقالية ممثلة في قوى الحرية والتغيير، على حكومة الرئيس المعزول عمر البشير.
يقول مصدر دبلوماسي – طلب حجب اسمه ل(الأحداث) إن حمدوك كان يعلم ماهو مطلوب منه وخلال زيارته الرسمية الأولى لأمريكا أراد أحد صناع القرار الذي التقاه تذكيره بمطالب واشنطن التي ستطرح عليه وعلى وفده رسمياً ومن بينها وقف دخول روسيا إلى السودان وعدم توقيع أي اتفاقيات جديدة مع الصين.
كانت حكومة حمدوك تمني نفسها بالحصول على مساعدات مالية كبيرة من أمريكا والدول الأوروبية بناء على تعهدات تمت قبل وأثناء الثورة والتغيير، لكن حكومة حمدوك أصيبت بخيبة أمل كبيرة، فعوضاً عن الحصول على دعم مادي من الغرب لتحقيق مكاسب كبيرة للشعب السوداني، انصاعت بشكل مطلق لبرنامج البنك الدولي وهو ما فاقم المعاناة الاقتصادية، لم تكن حكومة حمدوك بحاجة إلى روسيا فخزائنها مليئة بالوعود الغربية وألبوم رئيس وزرائها ممتلئاً بالصور مع المسؤولين الغربيين، لكنها تمكنت من استكمال رفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، برغم أنها أقدمت على استدارة كاملة في علاقات السودان الخارجية.
مصلحة عليا
يقول القيادي الثوري المحلي جلال يوسف بكري ل(الأحداث) إن برنامج الثورة هو إقامة علاقات خارجية متوازنة مع كل دول العالم تستند على تقديم المصلحة العليا للبلاد، لكن حمدوك – والحديث لجلال- كانت له أجندة وميول للغرب والقوى الامبريالية، على حساب الثورة وقضايا الشعب السوداني، ومضى قائلاً إن كل الوزراء الذين تعاقبوا على الخارجية خلال الفترة الانتقالية، لم تكن لديهم علاقة بالعلاقات الخارجية، كما لم تكن للسودان أي رؤية محددة حول ما يريده من روسيا أو أي بلد آخر.
تنشيط علاقات:
شهدت فترة ما بعد 25 أكتوبر 2021، التي تسلم فيها العسكريون زمام الأمور ضغوط غربية هائلة على السلطة الانتقالية الجديدة مما حدا بالعسكريين للموافقة على الحوار وفقاً لوثيقة للاتفاق الإطاري.
وبعد اندلاع الحرب وجد السودان نفسه يقاتل مكشوف الظهر، واصطفت عدد من الدولة الغربية والإقليمية وراء دعم المليشيا المتمردة، في هذا الإطار شرعت الخرطوم في تنشيط اتصالاتها مع موسكو سيما بعد ثبوت تورط شركة فاغنر الروسية في مساعدة المليشيا حيث زار روسيا في وقت مبكر من الحرب نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار، أعقبه وزير المالية د. جبريل إبراهيم، لتأتي الزيارة الأخيرة الأسبوع الماضي لمدير المخابرات العامة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، وذكرت وسائل إعلام محلية وأجنبية أن مفضل زار روسيا للمشاركة في مؤتمر عالمي لمديري الأمن، لكن مفضل أجرى محادثات وفقاً لإعلام روسي مع عدد من المسؤولين من بينهم نائب وزير الخارجية، وهذا ربما يكشف عن أهمية الأجندة التي جرى التشاور حولها.
في السياق كشف سفير روسيا لدى السودان في مقابلة صحفية عن تورط الدول الغربية في محاولة انقلاب حميدتي، وأوضح السفير أن تلك الدول حرضت حميدتي للإطاحة بجنرالات الجيش العنيدين، بحسب قوله.
ماذا يريد كل بلد:
ربما ليس كافياً تبادل الزيارات بالقدر الذي تشكله أهمية المشاورات وما يريده كل بلد من الآخر، ويقول الخبير المهتم بالعلاقات الدولية د. كمال عبدالجليل ل(الأحداث) إن السودان اقتصادياً يريد من روسيا الوقود والسماد والقمح ومدخلات الإنتاج، والحصول على تكنلوجيا الزراعة الروسية، وبالمقابل يرى كمال أن روسيا تريد الأراضي الزراعية نسبة لحاجتها الكبيرة للمنتجات المحصولية والبستانية.
وأشار إلى أن الجانب الروسي طلب ذلك خلال محادثات عديدة مع الجانب السوداني.
ويمضي كمال إلى القول إنه في الجانب الأمني والعسكري، فإن روسيا ترغب في إقامة قاعدة على البحر الأحمر، ويشير هنا إلى حاجة أمريكا أيضاً للتواجد في البحر الأحمر، ويرى كمال أنه إذا قرر السودان التحالف مع روسيا أو التوجه نحوها فإن ذلك سيضعه فى مواجهة مع الدول الأوروبية وأمريكا، مشيراً إلى امتلاك هذه الدول لآليات عديدة من ضمنها صندوق النقد الدولي، الأمر الذي من شأنه إضعاف تطور نمو السودان.
ويشدد كمال على أنه في حال تقرر التوجه إلى روسيا فإن هذا القرار يجب أن يكون قرار مؤسسات وليس أفراد، مشيراً إلى أن الرئيس السابق عمر البشير عندما قرر التوجه نحو روسيا كان ذلك قرار الدفاع والجيش، لكن وزارة الخارجية كان لها رأي آخر حيث عملت على إحداث اختراق في العلاقة مع واشنطن.
علاقة لا فكاك منها
يقول السفير السابق بوزارة الخارجية العبيد أحمد مروح ل(الأحداث) إنه يمكن أن نطلق على العلاقات السودانية الروسية خلال العقدين الأخيرين بأنها علاقة لا فكاك منها، إذ أن مصلحة البلدين الواقعين تحت الضغط الغربي عموماً والأمريكي المباشر، تجعلهما أقرب إلى بعضهما.
ويمضى العبيد قائلاً إن للسودان مصالح سياسية واقتصادية مع روسيا عبرت عن نفسها من خلال المواقف الروسية في مجلس الأمن الدولي لصالح السودان ومن خلال التنسيق السياسي في قضايا منطقة الساحل، وأيضاً من خلال الاستثمارات الروسية في السودان خاصة في مجال الذهب.
اختطاف العلاقة:
لم يكن خافياً تمدد العلاقة بين روسيا وقوات الدعم السريع، حيث انخرطت شركة فاغنر في تدريب وتزويد هذه القوات بالأسلحة والمعدات واستمر ذلك حتى في بدايات الحرب.
ويعلق السفير العبيد على هذا الجانب بالقول: بعد التغيير الذي حدث في أبريل 2019 تمّ تجيير جانب كبير من هذه العلاقة لصالح الدعم السريع من خلال مجموعة فاغنر، خاصة وأن الجانب السوداني الرسمي بدا وكأنه يُفضل أن ينحاز للمحور الغربي ويطبع علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فإن روسيا حرصت أن تبقى على علاقاتها مع السلطة ذات الرأسين في الخرطوم، وأن تستكمل اتفاقات كانت بصدد توقيعها في عهد نظام الإنقاذ ومنها بناء قاعدة لوجستية للبحرية الروسية في البحر الأحمر على السواحل السودانية.
ويضيف السفير العبيد أن التطورات التي حدثت منذ بداية العام 2022 سواء فيما يتصل بالحرب التي ابتدرتها روسيا على أوكرانيا، أو بتمرد قوات الدعم السريع في السودان وتمرد فاغنر في روسيا ألقت بظلالها على العلاقات السودانية الروسية، خاصة بعد أن تأكدت القيادة العسكرية السودانية أن الغرب غير حريص على تطبيع علاقاته معها وأنه يريد فرض شروط مجحفة، وبعد أن قمعت روسيا تمرد فاغنر وأخضعت أنشطتها لوزارة الدفاع مباشرة.
وعلى الرغم من حرص الولايات المتحدة الأمريكية على إفساد أي تقارب بين السلطات السودانية الحالية وروسيا يرى العبيد، أنه من الواضح أن الطرفين يسيران باتجاه ترميم هذه العلاقة وتطويرها، وما الزيارة التي سيقوم بها نائب وزير الخارجية الروسي لبورتسودان الأحد إلا شاهد على ذلك.