أمجد فريد
يوم الخميس 23 يناير 2025، غطت سماوات مدينة الخرطوم بحري في العاصمة السودانية، سحب سوداء كثيفة، اتضح لاحقا أن مصدرها هو مصفاة الجيلي للمواد البترولية، التي تقع في شمال المدينة. وكانت ميليشيا “قوات الدعم السريع” قد استولت على المصفاة، وتحصنت بها منذ وقت مبكر في مطلع الحرب.
مع تقدم قوات الجيش السوداني بشكل مطرد لاستعادة العاصمة الخرطوم وتحريرها من قبضة الميليشيا، حاول جزء من قوة الميليشيا المتمركزة في المصفاة، كسر الحصار الذي يطوقهم بإحراق بعض مستودعات الوقود في المنشأة البترولية، واستغلال الانشغال المتوقع بمنع دمار المصفاة، كستار للهروب من تطويق الجيش لهم.
لم يصل الحريق الذي أشعلته عناصر الميليشيا إلا لأحد مستودعات النفط الخام، واستطاعت قوات الجيش أسر المجموعة الهاربة من أفراد الميليشيا، بينما عاد الآخرون للاحتماء بأسر المهندسين والعاملين في المصفاة، والذين ظلوا يحتجزونهم كرهائن منذ اندلاع الحرب، واحتلالهم للمنطقة.
تدمير المصفاة، التي كانت توفر حوالي 150 ألف برميل يوميا من مشتقات النفط المختلفة، كان سيتسبب في خسائر بشرية عالية، وأثر بيئي واسع وطويل الأمد، وذلك غير الخسارة الاقتصادية الفادحة على السودان بتدمير أحد أهم ركائز بنيته التحتية، والمنشأة الوطنية الأساسية لتكرير النفط ومشتقاته في البلاد.
جاءت محاولة تدمير مصفاة الجيلي، كحلقة جديدة في منهج “الدعم السريع” الإرهابي بالاستهداف المتعمد للبنية التحتية المدنية الحيوية في السودان. فقد سبقت أحداث الجيلي الهجمات الممنهجة التي شنتها الميليشيا على أنظمة الكهرباء والمياه والمنشآت الحيوية الأخرى، التي نفذتها باستخدام طائرات مسيرة متطورة قدمتها جهات خارجية، ظلت تدعم الميليشيا لإطالة أمد حربها في السودان. حيث قامت الميليشيا في يناير الجاري فحسب بالهجمات الآتية:
13 يناير 2025– الهجوم على محطة توليد الكهرباء بسد مروي: شنت “قوات الدعم السريع” هجوما بطائرة مسيرة على محطة توليد الكهرباء بسد مروي في الولاية الشمالية، التي تُنتج حوالي 40في المئة من كهرباء السودان.
18 يناير 2025– الهجمات على محطتي الكهرباء والمياه بالشوك: استهدفت ميليشيا “الدعم السريع” عبر هجوم منسق بالطائرات المسيرة محطة توليد الكهرباء في الشوك بولاية القضارف، مما أغرق ولايات القضارف وكسلا وسنار في ظلام دامس. وفي الوقت نفسه، تعرضت محطة مياه القضارف لهجوم أدى إلى تقييد شديد في وصول السكان إلى مياه الشرب النظيفة.
19 يناير 2025– الهجوم على محطة توليد الكهرباء في دنقلا: استهدفت “قوات الدعم السريع” بواسطة الطائرات المسيرة محطة توليد الكهرباء في دنقلا بالولاية الشمالية، مما أدى إلى تعطيل إضافي لإمدادات الطاقة في المنطقة.وغير ذلك، أعلن الجيش عن نجاحه في إحباط هجمات طائرات مسيرة على محطات إنتاج الكهرباء في أم دبيكرات بولاية النيل الأبيض في 21 يناير 2025.
هذه الهجمات المتعددة على البنية التحتية الحيوية في السودان، من قبل ميليشيا “قوات الدعم السريع” لا تختلف عن المنهج المعتاد عنها في استهداف المدنيين، بل إن تزايد وتصاعد وتيرتها الذي يأتي متزامنا مع الخسائر العسكرية التي منيت بها الميليشيا في ولاية الجزيرة، ونجاح الجيش في استعادة وتحرير عاصمتها ود مدني، واستمرار الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور في الصمود في وجه محاولات ميليشيا “الدعم السريع” الاستيلاء عليها، بالإضافة إلى انقسام الحلفاء السياسيين الموالين للميليشيا حول فكرة تكوين حكومة موازية في أماكن سيطرتها، هو مما يدل على أنها تستعمل هذه الهجمات على المنشآت المدنية بشكل منهجي كوسائل ضغط سياسية، وهو ما يجعلها تقع تحت تصنيف وتعريف الإرهاب والأعمال الإرهابية بشكل مباشر.
التعريف الفكري للإرهاب قد يختلف باختلاف المنظورات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ولكن المجمع عليه هو أنه “وسيلة غير مشروعة تستخدمها جماعات أو أفراد لتحقيق أهداف سياسية”، من خلال تخويف الخصوم والمجتمعات والضغط على الحكومات باستخدام العنف أو التهديد به.وتتوافق أفعال ميليشيا “قوات الدعم السريع” مع الكثير من تعريفات الإرهاب في إطار القانون الدولي. وتتوفر عدة صكوك قانونية رئيسة لتحديد الإطار اللازم لتصنيف هذه الجرائم بالتعامل معها:
1. اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية: حيث تحظر اتفاقيات جنيف، وخاصة المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول، الهجمات على الأعيان المدنية الضرورية لبقاء السكان. وتنص على:
“يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب. ويحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين.”
تشكل البنية التحتية للكهرباء والمياه ضرورة لبقاء المدنيين، مما يجعل هجمات “قوات الدعم السريع” انتهاكا واضحا لهذا النص. إن استهداف هذه البنية يشكل عملا متعمدا يهدف إلى حرمان المدنيين من الأساسيات، وهو ما يعد جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
2. الاتفاقية الدولية لقمع الهجمات الإرهابية بالقنابل (1997):تجرم هذه الاتفاقية التدمير المتعمد للبنية التحتية المخصصة للاستخدام العام. وتعرف المادة 2 هذه الأفعال على أنها ترتكب بقصد:
– التسبب في وفاة أو إصابات جسدية جسيمة، أو..
– إحداث دمار واسع النطاق بمرفق عام بهدف ترهيب السكان أو إجبار حكومة على القيام بعمل ما.
ووفق هذا المعنى، فإن الاستهداف المتعمد لأنظمة الكهرباء والمياه، ومرافق النفط في السودان من قبل “قوات الدعم السريع” يفي بهذه المعايير الكافية للتصنيف.
3. قرارات مجلس الأمن الدولي 1566 (2004)، و1373(2001) حيث يعرّف القرار 1566 الإرهاب على أنه أفعال إجرامية، بما في ذلك تلك الموجهة ضد المدنيين، تُرتكب بقصد التسبب في وفاة أو إصابات جسيمة، أو إثارة حالة من الرعب، ويحث على التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب. أما القرار 1373فيلزم الدول بمنع وقمع وتمويل ودعم الإرهاب. وتتوافق أفعال ميليشيا “قوات الدعم السريع” مع التعريفات الواردة في نص وروح القرارات المذكورة، حيث تستهدف المدنيين، والبنية التحتية الحيوية لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية.
أيضا وثق مشروع “قاعدة بيانات الأحداث النزاعية والتحليل” (ACLED)في تقريرهلرصد الأحداث في السودان خلال العام 2024، أن نسبة 77 في المئة من أحداث العنف الموجهة ضد المدنيين تمت بواسطة ميليشيا “قوات الدعم السريع”.
وقامت الولايات المتحدة الأميركية مع نهاية العام السابق، بتصنيف أفعال ميليشيا “قوات الدعم السريع” على أنها تمثل جرائم إبادة جماعية، وهو ما يفرض عليها التزامات قانونية وسياسية مباشرة في التعامل مع الوضع في السودان، وتجاوز المساواة الشكلانية والحياد غير الحقيقي، الذي وقعت في فخه الولايات المتحدة، وعدد من الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى. وإذا كان هناك طرف يمارس الإرهاب ويرتكب الإبادة الجماعية، فالتزامات العالم المعلنة هي الوقوف ضده، والسعي لوقف جرائمه وانتهاكاته، وليس منحه المبررات السياسية والدبلوماسية للإبقاء عليه.
إن ما تقوم به ميليشيا “قوات الدعم السريع” حاليا هو سلوك مشابه لما ظلت تقوم به جماعة “بوكو حرام” في شمال نيجيريا باستهداف محطات توليد الكهرباء وشبكات توزيع المياه.ففي عام 2015، هاجمت الجماعة محطة للطاقة في ولاية بورنو، مما أدى إلى انقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل، وتعطلت الخدمات الصحية والتعليمية. وفي حادثة أخرى عام 2017، فجرت خطوط نقل المياه في ولاية يوبي، مما أدى إلى أزمة عطش واسعة النطاق.
إن المدخل إلى معالجة أي مشكلة هي تعريفها بشكل صحيح، والتخلص من شوائب الأغراض السياسية والذاتية التي تهدف إلى الاستفادة منها، حتى ولو كان ذلك على حساب أمان السودانيين واستقرارهم. وتعريف أفعال وجرائم “الدعم السريع” على حقيقتها، كأعمال إرهابية تعتنق الترويع والتخريب والإجرام كأدوات سياسية هو مدخل أساسي للتفكير حول كيفية إيقافها. أما الاستمرار في الرقص حول النار، وإنكار الحقائق فلن يؤذن إلا بالمزيد من الفشل لجهود إيقاف الحرب في السودان.