رأي

التحول الرقمي في زمن الحرب: كيف تعيد وزارة الاتصالات تشكيل الاقتصاد السوداني وتعزيز الشمول المالي؟

أسعد رجب

مقدمة

في بلد يعيش واحدة من أعنف الحروب في تاريخه الحديث، يتعرّض الاقتصاد السوداني لاهتزازات غير مسبوقة: انهيار سلاسل الإمداد، تدمير البنية التحتية، شلل النظام المصرفي، وانقطاع متكرر في الاتصالات والكهرباء. ومع ذلك، وسط هذا الركام، يبرز مسار آخر يعمل في الاتجاه المعاكس: مسار التحول الرقمي الذي تتبناه وزارة الاتصالات والتحول الرقمي، والذي بات يشكّل اليوم أحد أهم خطوط الدفاع عن ما تبقّى من قدرة الاقتصاد على العمل، خاصة في ملف الشمول المالي.

هذا المسار لم يبدأ مع الحرب، لكنه خضع خلال الشهور الماضية لأقسى اختبار عملي، وظهر أثره بوضوح في تجارب حقيقية على الأرض، من أبرزها تجربة تطبيق «بنكك» في الأشهر الأولى للقتال.

أولًا: وزارة الاتصالات… رؤية للتحول رغم ركام الحرب

قبل انفجار الحرب، كانت وزارة الاتصالات والتحول الرقمي قد أعلنت التزامها الواضح بدفع مسيرة الرقمنة في السودان، والانخراط في الجهود العربية والإقليمية لبناء اقتصاد رقمي متكامل. فوزير الاتصالات والتحول الرقمي أكّد في أكثر من محفل إقليمي التزام السودان بدعم برامج التحول الرقمي وتبنّي التطبيقات الحديثة لخدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.  

كما أُطلقت مبادرات عملية مثل خطة 3×3 للتحول الرقمي التي تضمنت مسارًا اقتصاديًا يقوم على إنشاء نافذة رقمية موحّدة لصادر الذهب، وبوابة موحدة للصادر والوارد عبر الموانئ، ومنصات مخصّصة للصادرات الزراعية والحيوانية، في محاولة لربط التجارة الخارجية بمنظومة رقمية شفافة تقلل الفساد وترفع الكفاءة.  

 

هذه الرؤية جعلت من وزارة الاتصالات لاعبًا اقتصاديًا، لا تقنيًا فحسب؛ فكل خطوة في الرقمنة تعني:

•تقليل الاحتكاك بالنقد الورقي

•زيادة شفافية حركة الأموال

•تسهيل وصول المواطنين إلى الخدمات المالية والخدمية دون وسيط

وهو ما أصبح ذا قيمة مضاعفة بعد اندلاع الحرب.

ثانيًا: اقتصاد نقدي هش وشمول مالي متدنٍّ

قبل الحرب، كان السودان مجتمعًا نقديًا بامتياز؛ حيث تعتمد التعاملات اليومية على الكاش الذي ينتقل يدًا بيد، بينما يظل استخدام الخدمات المصرفية والرقمية محدودًا نسبيًا مقارنة بدول المنطقة وأفريقيا جنوب الصحراء. تشير دراسات عن الشمول المالي في السودان إلى أن نسبة الوصول للخدمات المالية بين الأدنى في أفريقيا، بسبب ضعف البنية المصرفية، واتساع الاقتصاد غير الرسمي، وقصور البنية التحتية للاتصالات.  

مع ذلك، اتخذت الحكومة خطوات مبكرة للالتحاق بركب الاقتصاد الرقمي، من بينها انضمام السودان عام 2020 إلى تحالف الأمم المتحدة للمدفوعات الرقمية، بهدف تسريع الانتقال من النقد المطبوع إلى المدفوعات الإلكترونية، وتعزيز الشمول المالي والشفافية وبناء اقتصاد أكثر متانة.  

هذه الخلفية تفسّر كيف أن التحول الرقمي لم يكن ترفًا، بل حاجة بنيوية ظلّت مؤجلة، ثم جاءت الحرب لتكشف أهميته بشكل صارخ.

ثالثًا: الحرب كاختبار قاسٍ للبنية الرقمية

مع اندلاع القتال في أبريل 2023، تعرّضت شبكات الاتصالات والإنترنت لضربات متكررة؛ فقد شهد عام 2023 واحدًا من أسوأ الأعوام لحقوق الاستخدام الرقمي في السودان، من قطع متكرر للإنترنت، وقيود على الاتصالات، ما أثّر مباشرة على قدرة المواطنين على التواصل والوصول إلى الخدمات.  

وفي فبراير 2024، أدت انقطاعات طويلة في شبكات الهاتف المحمول إلى عزل ملايين السودانيين عن الخدمات الأساسية، ودفع الكثيرين للبحث عن حلول بديلة مثل الاتصال عبر الأقمار الصناعية (ستارلينك) لمجرد شراء الطعام والتواصل مع ذويهم. وفي خضم هذه الفوضى، أشارت تقارير صحفية إلى أن تعطل الشبكات حرم المواطنين من استخدام تطبيقات مصرفية مثل «بنكك» لإجراء المدفوعات والتحويلات، في وقت لم يعد فيه النقد الورقي متوفرًا بما يكفي.  

بمعنى آخر: كل دقيقة انقطاع للاتصالات كانت تعني شللًا اقتصاديًا كاملًا في مناطق واسعة من البلاد.

رابعًا: «بنكك» نموذجًا – كيف أنقذ الاقتصاد اليومي في أشهر الحرب الأولى؟

في هذا السياق المضطرب، برز تطبيق «بنكك» – التطبيق المصرفي لبنك الخرطوم – بوصفه شريانًا رقميًا حقيقيًا للحياة الاقتصادية اليومية.

فمع توقف حركة النقد الورقي بسبب انعدام السيولة، وصعوبة الوصول إلى الفروع المصرفية نتيجة القتال، أصبحت المعاملات المالية تعتمد بدرجة كبيرة على التحويلات الإلكترونية عبر هذا التطبيق.

تقرير لشبكة CALP Network حول الاستجابة الإنسانية في السودان أشار بوضوح إلى أنه منذ 15 أبريل 2023، أصبحت العمليات المالية تعتمد بدرجة أساسية على تطبيق «بنكك» لتحويل الأموال وسداد المدفوعات، إلى جانب تحويلات الرصيد الهاتفي عبر شركات الاتصالات.  

كما وصفت تقارير ميدانية نشرتها منصة The New Humanitarian التطبيقات المصرفية في السودان بأنها تحوّلت إلى «شبكة أمان رقمية» لملايين الأشخاص خلال شهور الحرب الأولى، حيث استخدم المواطنون هذه التطبيقات لشراء الغذاء والاحتياجات الأساسية في ظل نزوح واسع وانهيار النظام المصرفي التقليدي.  

ومن زاوية أخرى، بيّنت تقارير إخبارية دولية أن كثيرًا من المواطنين لم يكن لديهم أي وسيلة للحصول على الطعام أو تسديد ثمن الخدمات، لأنهم لا يملكون نقدًا ورقيًا كافيًا، ويعتمدون بالكامل على تطبيق «بنكك»، ما جعل أي تعطل في الشبكة أو التطبيق يترجم فورًا إلى أزمة معيشية حادة.  

هكذا قدّمت تجربة «بنكك» درسًا عمليًا بالغ الأهمية:

أن التحول الرقمي ليس رفاهية تقنية، بل بنية تحتية حيوية تعادل في أهميتها الكهرباء والمياه والطرق، خاصة في زمن الحرب والأزمات.

خامسًا: دلالات استراتيجية لوزارة الاتصالات والتحول الرقمي

ما حدث خلال الحرب يضع أمام وزارة الاتصالات والتحول الرقمي والجهات الاقتصادية في الدولة مجموعة من الرسائل الجوهرية:

1.تعزيز صمود البنية التحتية الرقمية

لا بد من الاستثمار في شبكات اتصالات أكثر مرونة وقادرة على العمل في ظروف الطوارئ، وربطها بمصادر طاقة بديلة، وضمان توزيع جغرافي يقلل من مخاطر الانقطاع الشامل.

2.توسيع الشمول المالي الرقمي

إذا كان «بنكك» قد أثبت دوره في الفئات القادرة على الوصول إلى الهواتف الذكية، فإن ملايين السودانيين ما زالوا خارج هذه المنظومة. المطلوب هو تشجيع حلول المحافظ الإلكترونية، والوكالات المصرفية، ومنصات الدفع عبر الهاتف البسيط USSD، مع تنظيم قوي يحمي المستخدمين ويمنع الاستغلال.  

3.تشبيك التحول الرقمي مع سياسات التجارة والإنتاج

مبادرات مثل النافذة الموحدة لصادر الذهب والبوابة الرقمية للصادر والوارد يمكن أن تتحول إلى رافعة حقيقية لمكافحة التهريب، وزيادة الإيرادات، وتحسين بيئة الأعمال، إذا تم ربطها بأنظمة دفع رقمية آمنة وشفافة.  

4.حماية الحقوق الرقمية للمواطنين

التحول الرقمي لا يكتمل من دون حماية لحقوق المستخدمين في الوصول إلى الإنترنت والبيانات، ومنع استخدام الانقطاعات كأداة عقاب جماعي، لأن ذلك يضرب الاقتصاد قبل أن يضرب الخصوم.  

>>>>>>>يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى