رأي

الارتباك الإماراتي أمام الردّ الشعبي السوداني

مجدي محمد علي

فوجئ صنَّاع القرار في دولة الإمارات بحجم الردّ الإعلامي والشعبي السوداني وقوَّته على ما يراه كثيرون دورًا إماراتيًا أصيلاً في تأجيج أوار الحرب في السودان؛ إذ أحدثت الموجة الواسعة من المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، إلى جانب النشاط الإعلامي الكثيف للسودانيين في الخارج، ارتباكًا واضحًا داخل المشهد الإماراتي العام.

ما واجهته الإمارات في هذه الأزمة يختلف عمَّا خبرته في تجارب تدخلاتها السابقة، كليبيا واليمن؛ ففي تلك الحالات لم يبرز ردٌّ شعبي خارجي منسَّق أو واسع التأثير. لم نسمع بمظاهراتٍ ليبية أو يمنية حاشدة في العواصم الكبرى، بينما في الحالة السودانية، ظهر تنظيمٌ محكم، وصوتٌ إعلاميٌّ موحَّد، ورسائل مدروسة عبر مختلف المنصَّات. جعل ذلك الحكومة الإماراتية تشعر بأن الحملة الإعلامية قد أفلتت من يدها، وأنها أحدثت صدىً لافتًا داخل الرأي العام الإماراتي نفسه.

استخدم السودانيون أدواتهم الإعلامية بكفاءة عالية؛ تنوَّعت الحملات بين مواد توثيقية، وشهادات شخصية، وتحليلات سياسية مؤثّرة، وهو ما جعل السيطرة على السرديَّة العامة ضربًا من الخيال. هذه الكثافة في الردّ، إضافةً إلى الانتشار الواسع للسودانيين في مواقع التواصل والجاليات الموجودة في جميع أصقاع العالم، جعلت من الأزمة ملفًا إعلاميًا غير قابل للتجاهل أو التسطيح.

وممَّا يجعل الحالة السودانية متفرّدة طبيعة العلاقة التاريخية الخاصة بين الشعبين السوداني والإماراتي؛ فالتغلغل الاجتماعي والثقافي السوداني في المجتمع الإماراتي عميق الجذور، إذْ ساهم السودانيون لعقودٍ في بناء المؤسسات التعليمية والإدارية والطبية منذ المراحل الأولى لتأسيس الدولة. لم يكن وجودهم هامشيًا أو عابرًا، وإنما جزءٌ من نسيج الحياة اليومية في الإمارات، على خلاف الوجود الليبي أو اليمني. لذلك، عندما اندلعت الحرب في السودان، وجد المواطن الإماراتي نفسه أمام مأساةٍ يرويها له جارٌ أو زميلٌ أو صديقٌ سوداني لم يعرف عنه تسييسًا، فأصبح من الصعب عليه أن يوفّق بين الصورة الرسمية المقدَّمة عن الحرب، وبين الرواية الإنسانية التي تخرج من فم من يعرفه عن قرب.

زاد من ارتباك الحكومة الإماراتية أنها اعتادت تقديم نفسها نموذجًا مثاليًا للدولة المتسامحة والمنفتحة؛ أنشأت وزارة للتسامح والتعايش وأخرى للسعادة، وروَّجت لصورتها كواحةٍ للتعدُّد والقبول بالجميع بلا تمييز من خلال التصريح ببناء المعابد والكنائس. غير أن الحرب في السودان جاءت لتختبر صدقيَّة هذا النموذج، فكشفت عن تناقضٍ بين الخطاب الرسمي ومبادئ الحياد الإنساني التي طالما تباهت بها الدولة، وعن توتراتٍ في الموقف السياسي والإعلامي يصعب التوفيق بينها وبين شعارات التسامح؛ إذْ بدا أن خطاب التسامح هذا لا يمتدّ إلى الشعوب حين تمسّ مصالح الدولة، ولا يصمد أمام امتحان السياسة حين تتعارض القيم مع الحسابات. وهنا تحديدًا انكشفت المسافة بين الصورة التي صاغتها الإمارات لنفسها بوصفها دولة تُحسن إدارة صورتها في الخارج، وبين ممارساتها التي تخضع في النهاية لمنطق النفوذ لا لمنطق المبادئ.

خلاصة القول: لم تكن الإمارات تتوقَّع أن تواجه رأيًا عامًا سودانيًا بهذا التماسك والصمود والقدرة على التأثير، لكن الأحداث أثبتت أن الشعوب حين تتكلَّم بصوتٍ واحد يمكنها أن تهزَّ حتى أكثر المنظومات الإعلامية انضباطًا. وما يجري اليوم ليس مجرد سجالٍ إعلامي، بل مواجهة بين آلةٍ رسميةٍ تملك النفوذ والمال، وشعبٍ يمتلك الوعي والتجربة والحقّ. ولذلك، على الإمارات أن تدرك (إن لم يكن الأوان قد فات) أن وعي الشعوب، حين يتكئ على عدالة قضيته، يصبح ضوءًا لا تحجبه شحنات الأسلحة، وأن للحقّ حين يُقال من أفواه المظلومين رنينًا لا تطمسه جيوش الدعاية ولا تشتريه خزائن الذهب.

*13 نوفمبر 2025*

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى