السفير السابق د. خضر هارون في حوار حول الحرب وتداعياتها ومساراتها:
الاتفاق الإطاري من وميضه اشتعلت شرارة الحرب التدميرية
ما تقوم به الإمارات يرقى للمشاركة في جرائم الحرب
لا أرى أي دور حاسم للولايات المتحدة في إنهاء الحرب .. والخارجية الأمريكية تتبنى مواقف الإمارات وقوى الإطاري
العامل الخارجي في إشعال الحرب لا يُقرأ بمنأى عن مسار الضعف الداخلي وغفلة النخب الوطنية وتخليها عن واجباتها في التأسيس والاستئناف والاستدراك
الحرب الراهنة ليست بين جنرالين، وإنما على مطامع جيوسياسية خارجية أسهم فيها ضعف الدولة وقصر نظر النخب الفاعلة
دكتور خضر هارون مثقف ودبلوماسي من طراز خاص، شغل مهام القائم بأعمال السفارة السودانية بأمريكا في ظرف دقيق، وأسهم بشكل واضح في إعادة مسار العلاقات مع الولايات المتحدة. كما شهد حقبة التقارب مع أمريكا ومرحلة صنع السلام وإدارة أزمة دارفور والتعاون الاستخباراتي بين جهاز المخابرات السوداني ووكالة (CIA) فيما سمي بمكافحة الإرهاب. وفي فترات متفاوتة، شغل منصب مدير دائرة أمريكا وأوروبا بالخارجية السودانية، بجانب سفارة السودان باليابان،
“الترا سودان” حاورته حول دواعي الحرب الراهنة ورهاناتها وتداعياتها ومساراتها وأسئلتها وخرجت بالحصيلة التالية.
حوار: خباب النعمان
من موقع المراقب كيف ترى حرب السودان؟
يبدو لي أن ما حدث في 15 أبريل 2023م هو أقصى نقطة في خط الفشل المصاحب للدولة السودانية ومؤسساتها المختلفة منذ الفاتح من يناير 1956م، وباندلاع الحرب بلغ آخر تمظهر الإخفاق الوطني درجة أن يكون السودان معها أو لا يكون ! أعني بصورته التي بقيت منذ انفصال الجنوب في العام 2011م . إذ تضافرت عوامل داخلية وخارجية في إنتاج هذا الفشل، وبهذه المناسبة فقد كتبت مقالة باللغة الإنجليزية منشورة في الفضاء الإلكتروني أثرت فيها ذات الإشكالية حول أزمة إفريقيا : على من يقع اللوم؟ و لا أدري سبب ذيوع إلقاء اللوم على النخب وتحميلها وزر أزماتنا الوطنية المزمنة؟ ربما يقف وراء ذلك القوى الغربية نفسها التي لا تريد أن يضع الناس أيديهم على موضع الألم ! .. ظللت موقنًا بأن الاستقلال الذي حدث لظروف تاريخية بعينها لم يكن ينوي إنشاء دول قوية قائمة بذاتها بقدر ما كان يخلق واقع جديد محكوم بأنماط مختلفة للهيمنة الغربية، وأفضل من عبر عنها الزعيم الإفريقي المعروف كوامي نكروما (يوليو 1960-فبراير 1966م) في كتابه الشهير الاستعمار الجديد، والذي كتبه في العام 1965م إبان رئاسته لبلاده، وهو ما أزعج كثير من الدوائر الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، إذ عوقب بحرمانه من المساعدات التي كانت ترده والبالغة نحو 30() مليون دولار حتى أطيح به بعد عام من ذلك. ليس ثمة جدال أن الكتاب كان جريئاً من جهة طرح الموضوع وكشف آليات ما سماه بالاستعمار الجديد، لا سيما المؤسسات الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية والتي كان للولايات المتحدة قصب السبق فيها، وأعني مؤسسات بيرتنودز من بنك دولي وصندوق نقد دولي، ورابطة الدول البريطانية، ورابطة الدول المتحدثة بالفرنسية، كلها شكلت بنظري أحصنة طروادة للإشراف على البلدان المستقلة ظاهرياً فقط
شكّل التدافع نحو إفريقيا منذ مؤتمر برلين في 1884-1885م علامة فارقة في صنع الواقع الإفريقي، حيث استحوذت بريطانيا وفرنسا على مساحات شاسعة بمقدار قوتيهما بينما حازت ألمانيا مثلًا على مناطق في شرق إفريقيا، واضطر ملك بلجيكا إلى شراء الكونغو من ماله الخاص، وكل ذلك بسبب حاجة أوروبا إلى المواد الخام والأسواق في حقبة الثورة الصناعية وقمع أي نزعات استقلالية، سواء كانت وطنية أو حتى قبلية. ستجد كيف حرصوا على تصنيف شعوب إفريقيا التي لا يجمع بينها شعور قومي مشترك كقبائل حتى لا تنشأ أي رابطة متجاوزة لحمأة الهويات الجزئية، ومن ذلك محاربتهم لمسمى سوداني وتخصيصه وصفاً لمن كانوا رقيقًا. ومن المؤكد أن خروج المستعمر لم يكن الفصل الأخير في عملية الاستعمار، حيث استمر بشكل من الأشكال . وبالنظر إلى الكوابح والأزمات المزمنة سندرك القضية بجلاء، سندرك لماذا قامت الانقلابات والحروب، وكيف نشأ التمرد مثلاً في توريت قبل إعلان الاستقلال. لقد أحصيت في المقال الذي ذكرته آنفًا أكثر من تسعة عشر انقلاباً نفذ في إفريقيا بغرض إعاقة الاستئناف الحضاري، بل حتى التباينات الاجتماعية والثقافية لم يراد لها أن تذهب في اتجاه التكامل والاندماج بأثر من آليات الاستعمار الجديد.
لقد واجهت الدولة السودانية منذ يومها الأول تمردًا شرسًا مسنود بقوة خارجية استمر لفترة طويلة جداً، وتوقف في أوقات قليلة فضلاً عن اضطراب المسار السياسي منذ قيام أول حزب في العام 1943م، والانشقاقات التي طالت التوجهات الوحدوية مع مصر وعلو كعب الطائفية التي مثل ذروة سنامها لقاء السيدين في يونيو 1956م، وإسقاط حكومة إسماعيل الأزهري وهو ما وصفه المحجوب بأسوأ حدث في السياسة السودانية، إلى أن تداعت الديمقراطية النيابية الهشة بسبب تسليم عبد الله خليل الحكم للجنرال عبود خوفاً من التئام شمل الاتحاديين، وقطع الطريق أمام عودتهم إلى الحكم بكل ما يترتب على ذلك من اقتراب لمصر وتماهي مع سياساتها . عبود نفسه ذهب أشواطًا بعيدة في التقرب إلى مصر درجة إغراق منطقة النوبة وحضارتها، ويكفي رصد ما تم انفاقه في نقلهم إلى منطقة خشم القربة في أوضح تجلي لفشل المعالجات الوطنية. في المقابل ستجد أن تطبيق الأسلمة والتعريب وفرضها على الجنوبيين أسهم في تأزيم الأوضاع، وأدى في النهاية إلى سقوط النظام برمته في أول هبة شعبية تحدث في إفريقيا ما بعد الاستقلال بأكتوبر 1964م، بالرغم من أن نظام عبود تمكن من تحقيق إنجازات واضحة أفادت من واقع الثنائية القطبية وصداقة الشعوب، وذلك متمثل في إنشاء مصانع السكر، وزيادة فرص التعليم وافتتاح مدارس ثانوية ومتوسطة وإكمال مشروع امتداد المناقل.
وبسقوطه دخلت السياسة السودانية حقبة من التنافر والتناحر الشديد، وتسللت حدة الخلاف بين الطائفتين إلى الطبقة السياسية برمتها، لا سيما مع بروز التنافس الشديد بين اليسار والقوى الليبرالية من جهة، مقابل حركة الإسلاميين التي كانت حركة ضاغطة ونشطة وتمكنت من الضغط على الحزبين.
أمر آخر متصل بالانشقاقات داخل بنية الأحزاب التقليدية ومنها انشقاق حزب الأمة -مع ثورة أكتوبر- بين الصادق المهدي وعمه الإمام الهادي المهدي، وانعكاس ذلك على الممارسة السياسية في البلاد. وبفعل الأحزاب نفسها نشأ نمطًا من التمرد الخفي على هيمنة القوى التقليدية في النطاقات الهامشية، كقيام جبهة نهضة دارفور (1964-1965) ومؤتمر البجا (أكتوبر 1958م)، وحاول بعض المثقفين أن يلتمسوا طريقًا خارج دوائر سيطرة هذه القوى. في ظل عجز الديمقراطية النيابية ونفور دول الجوار منها، إذ أوضح محمد أحمد المحجوب في كتابه ذائع الصيت “الديمقراطية في الميزان” أن جمال عبد الناصر أسدى له طعنة من الخلف، وهو يعني بطبيعة الحال إعاقة المسار الديمقراطي الذي يأتي في شكل تدخل خارجي، بيد أن ذلك لا ينف التعثر الداخلي بسبب الخلاف الحاد بين الإسلاميين واليسار، وما حادثة طرد الحزب الشيوعي من الجمعية التأسيسية ببعيدة عن الأذهان وما تأسس عليها من انقلاب قام به تحالف القوميين واليسار بقيادة جعفر محمد نميري في الخامس والعشرين من مايو 1969م، ومن ثم مجيء حركة جون قرنق بعد فترة سلام دامت (10) سنوات. وإضعافها للدولة بفعل تمردها الشرس الذي استطاع أن يسقط مدن رئيسة في جنوب السودان خلال الديمقراطية الثالثة، لتأتي الإنقاذ وتجد حركة قرنق قد أحكمت تحالفها مع المعارضة السياسية الذي ابتدرته بالتحالف مع اليسار. وهذا يظهر أن عداء اليسار للجيش عميق لجهة تماهيه مع كل الكيانات المضادة له، ومن ذلك ما يحدث حالياً.
ومع قدوم الإنقاذ في لحظة فارقة هي سقوط الاتحاد السوفيتي من جهة، وتبنيها للأممية الإسلامية في عالم تمثل فيه الدولة القطرية وحداته الرئيسة في العلاقات الدولية من جهة، تفجرت الخلافات لكونها استقطبت المعارضات والقوى الشعبية المناهضة والمناوئة لأنظمتها تجسيدًا للأشواق التائقة للأمة الإسلامية، وتاريخ الخلافة العثمانية والذي تمظهر في المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الذي أحدث إزعاج كبير للإقليم والعالم، وأتت من ذلك سياسة الاحتواء بالجوار من قبل إريتريا وإثيوبيا وأوغندا.
لقد أتت حادثة محاولة اغتيال حسني مبارك التي لم يكن لرأسي النظام حينها “البشير والترابي” علمًا بها كمسار فارق أرجع السودان إلى الواقع القطري، والتخلي عن الأممية بسبب ما جرى له من مضاغطة وحصار شديد، وذلك قبل أن يدب الخلاف في أوصال النظام وينتهي إلى المفاصلة الشهيرة في العام 1999م. وكان النظام قادر بفعل توفره على أعرض خط تمثيل لقوى السودان على بناء قواعد لنظام سياسي مدني راسخ.
تولدت مفارقة كبيرة في ثنايا الممارسة الإنقاذية ما بين الأفق الذي حمله شعار الدولة الإسلامية، ونماذج العدالة والرشد العمري وسياق المضاغطة والمحاصرة الماثلة الذي يجعل المعالجة الأمنية هي السبيل للحفاظ على بيضة الدولة، مما جعل الأولوية لبقاء النظام على إنفاذ مشروعه. ولم تلبث بواقع هذه المفارقة والاضطرار لتغليب المحافظة على النظام على تفجير المشكلات والأزمات على مشارف الألفية الثالثة.
وفي ديباجة الورقة الشهيرة لمركز الدراسات الاستراتيجية (دولة واحدة: بنظامين) إشارة واضحة لأزمة النظام، واقتراح بأن إقرار ذاك النموذج سيساعد السودان الذي ضعف بسبب الانقسام والمفاصلة. وهي نقطة مركزية في معرفة مسار الإنقاذ التي تجاوزت “سلطة المشروع” إلى “مشروع السلطة” مما جعلها تتلمس بقاءها واستمراريتها بإعادة تموضعها في السياق الإقليمي وفتح منافذ نحو العالم.
سترى كيف أن النخبة الإسلامية وفي سبيل استمراريتها والحفاظ على وجودها الشاخص تركت الجنوب يمضي دون أن تتحسب إلى أن في ذهابه أعمق فعل لإضعافها، كما ظهر بعد ذلك الضعف الاقتصادي وما صاحبه من تحركات مطلبية واسعة للطبقة الوسطى التي هالها ما أصابها في مصالحها الاقتصادية في مقابل تحول النظام نفسه من تحكم مجموعة إلى مسرح للرجل الواحد.
وفي ذات العام 2013م الذي شهد هبة الشباب السوداني نشب في الجنوب صراعاً دامياً بين الرئيس ونائبه، حتى راجت العبارة الشهيرة كنا نطمح إلى بلد بنظامين فإذا بنا نحصل على بلدين بنظام واحد.
ذات المسار الذي أسهبنا في شرحه هو الذي أنتج في 2018م الموجة الثانية من الاحتجاجات، ما مكّن اللجنة الأمنية من كتابة السطر الأخير في نظام الإنقاذ وما تأسس من طور انتقالي شهد أشرس حرب تدور في عموم السودان، لا على أطرافه كما كان في السابق. حرب هي أقصى وأقسى نقطة في خط الفشل المصاحب للدولة الوطنية كما أسلفت
شاع في حقبة ما بعد الثورة النظر للإنقاذ بحسبانها أم الكبائر الوطنية، ونظر لها البعض إلى كونها خطيئة محضة أنتجت وعمقت مسار الإخفاق الوطني .. كيف رأيتها أنت من الداخل؟
كثير ما ترد مقارنة بين فترة الإنقاذ (1989-2019) وفترة إبراهيم عبود (1958-1964)، وحين ندقق النظر نرى أن الإنقاذ أحدثت نقلة ملحوظة رغم الحصار والتضييق في الاتصالات، وتمكنت من استخراج البترول، واستطاعت أن تنتج عشرية كاملة من الرفاه تحسنت فيها الأوضاع المعيشية، وتحسن مستوى الجنيه وأنجزت مشروعات مهمة مثل مشروعات حصاد المياه و تعلية الرصيرص وستيت وسد مروي، وإنشاء الكباري وشبكة الطرق القومية، فضلاً عن التوسع في رقعة التعليم.
هناك خلاف حول تقديم الأولويات على الثانويات مثل مد خطوط السكك الحديدية، وهو خلاف موضوعي لا يأتي على حقيقة المنجزات التي تمت.
هذه المنجزات أيضًا لا تمنح الإنقاذ مشروعية البقاء إلى الأبد، أو تبرر نمط حكمها الاستبدادي، لكنها بذات القدر تثبت لها ما حققته في ظرف ضاغط لا يرجع الفضل فقط لبقائها لمدة ثلاثة عقود في سدة الحكم.
في المقابل حوى سجل الإنقاذ تجاوزات واضحة وانتهاكات لحقوق الإنسان دون مسوغات منطقية، أو حتى أسباب مفهومة مع معرفتنا بكثير ممن اعتلى مقام المسؤولية، واتسامهم بقدر عالٍ من الاستقامة والالتزام الأخلاقي، بيد أنها تحولت في آخر عهدها إلى حكم عضوض، انتفت فيها الشفافية وانتشر الفساد وساد منهج الترضيات والمجاملات، وتكونت عشرات مراكز التفكير والبحث، ليس لإثراء حركة البحث ومنح المشورة العلمية لمتخذي القرار، وإنما كما أسلفت للترضيات والمجاملات. هناك من أثرى بصورة غير مشروعة وهناك من مضى في طريق التسلط المحض، ولم تغريه طرق الثراء السريع والحرام. وفي اعتقادي أن ما شاع من دعاية لوصم الإنقاذ بالسرقة والفساد تحت لافتة (كيزان حرامية) لا تخل من غرض. فخطأ الإنقاذ أنها لم تمض في طريق توسيع قنوات الشورى وتفعيل آليات الاستئناس بآراء أهل المعرفة والنظر للمصلحة العمومية.
هناك أخطاء كبيرة في المرحلة الأولى ارتبطت بحملات الصالح العام، وإحالة كثير من الكفاءات إلى التقاعد، رغم أنها شهدت كذلك الاستعانة بكثير من الخبراء في مراحل لاحقة ممن لا ينتمون إلى حوزة التنظيم.
غير أن أكبر خطأ هو إصرار البشير في البقاء على سدة الحكم حتى ما بعد العام 2015م، عوضًا من أن يتنحى لمصلحة تأسيس نظام مدني جديد يستمد الروح من قيم الإسلام، وجمع الناس على صيغة مرضية أكثر عدالة ورشداً.
لقد تدهورت الأمور أيضًا بسبب الغفلة والعجلة وتغليب الهم السلطوي الآني، ولم تخل معالجة انفصال الجنوب من خفة أدت إلى ما حدث لاحقًا من أزمات، حيث كان في الإمكان الأخذ برأي لوال دينق في استمرار ترتيبات قسمة الثروة إلى عشرين عام.
يراد لنا أن نفهم من خلال السردية الشهيرة أن من أطلق الرصاصة الأولى في المدينة الرياضية قصد قطع الطريق أمام تنفيذ الاتفاق الإطاري .. ألم يكن الاتفاق المسمى إطارياً هو الذي فجر التناقض الكامن في طور الانتقال بين الجيش الرسمي وقوته الساندة؟ بمعنى آخر، هل الاتفاق الإطاري أم إفشاله هو من أشعل الحرب؟
أظن أن العامل الخارجي كان له دور واضح في إشعال الحرب، وأعني تحديدًا القوى الرافضة للربيع العربي التي تقف بالضد من التيار الصاعد في أعقاب الانتفاضات العربية، وقد أسهمت بصورة واضحة وبإنفاق سخي في وضع العراقيل أمام الانتقال الديمقراطي في تماهي مع رغبة الغرب المناوئة للنخب الوطنية، والتي تعلي من شأن الاعتبارات والمصالح القومية على أي اعتبار آخر. وما تجارب مصدق والليندي عنا ببعيد، فكيف إذا أتى التغيير بإسلاميين في محيط جيوسياسي معقد تقع إسرائيل في قلبه. وفي السودان لم تشفع التنازلات التي قدمها البشير في السماح ببقائه،ولم تجد كل محاولات الاستجداء والاستعطاف وقطع العلاقة مع إيران والتودد للمحاور الإقليمية.
أمر آخر متعلق ببنية الجيش وتخليه عن تدريب عناصر المشاة ورفدها بكافة التجهيزات اللازمة منذ العام 2007م، والاستعانة بمليشيا اتهمت بارتكاب الإبادة الجماعية في دارفور واستمرار هذا الخطأ الجسيم في مرحلة ما بعد الإنقاذ رغم الشعارات الثورية، علاوة على وضع البلاد كلها تحت الهيمنة الدولية بطلب من رئيس الوزراء واستقدام بعثة فولكر المعيبة.
لا مراء أن النخب الوطنية والإسلامية اقتنعت بالمسار الديمقراطي، ويكفي أن التيار الإسلامي لم يحاول إنقاذ الإنقاذ وسلمها إلى مصيرها المحتوم. كان في الإمكان استيعاب كل القوى المتطلعة للحكم المدني كما حدث في عهد سوار الذهب، وليس دقيقاً أن الانتقالات القديمة فشلت بسبب طريقتها، وإنما بحسب رأيي بسبب منهج الانتقال والاتفاق على مشروع وطني يتواضع عليه الجميع ويلزم اليمين واليسار ببناء نظام سياسي مدني.
لا يمكن أن ننسب هشاشة التجربة الديمقراطية الثانية والثالثة إلى طريقة الانتقال، وإنما إلى الممارسة القائمة على الخطب الجوفاء والاستعراض، وإلى ما اسميه الديمقراطية الموجهة القائمة على فاعلين غير ديمقراطيين وممارسة الإقصاء.
العوامل الداخلية سهلت للقوى الخارجية الانقضاض على النظام بواسطة الدعم السريع، وكان خطأ النظام السابق تمكين العسكر في مرحلة ما بعد عاصفة الحزم من إدارة العلاقات والتحكم في مورد الذهب عوض تأميمه لصالح الدولة.
لقد تمكن المشروع الإماراتي من خلال التناقضات التي أوجدها النظام السابق وتحالف مع تيارات مدنية من حزب الأمة والاتحاديين والبعثيين، ووجد في الدعم السريع الآلية العسكرية لإنفاذ مخططه وابتلاع البلاد بعد استباحتها مع الاستثمار في خطاب التخويف من الإسلاميين. ومثل الضعف الداخلي حجر الزاوية التي قام عليها مشروع ابتلاع الدولة، وتحويل الثورة التي نهضت على عوامل موضوعية مرتبطة بتفشي البطالة وانسداد الأفق وغياب الأمل إلى حرب ضد بقاء الدولة واستمراريتها، ومحاولة تجزئتها وتفكيكها. الأسوأ في المشروع الراهن هو استقدام المليشيات العابرة للحدود وإغراق البلاد في الفوضى، وممارسة أبشع الفظائع والانتهاكات.
ومع الإمكانيات الإفريقية الكامنة والتي تحوي أكثر من 30% من المواد الخام في العالم، ونهم القوى الخارجية يصبح تنفيذ مشروعات الاستهداف والاستحواذ أمرًا طبيعيًا في ظل الغفلة و الضعف والتساهل مع موجبات الأمن القومي والحرص على المكاسب والمصالح الوطنية.
أستطيع أن أقول أن الحرب القائمة ليست بين جنرالين ولكنها بسبب المطامع الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية في بيئة تنافسية عالية، وصعود قوى دولية كالصين والهند ودول البريكس فضلًا عن الغرب. وتطلع البلدان العربية الغنية إلى الحصول على الموارد تحسبًا لمرحلة ما بعد النفط. إنها حرب على ثروات السودان في ظل ضعف دولته وغفلة قواه السياسية ونخبه.
أما السردية المتعلقة بإطلاق الطلقة الأولى التي تروج لها قوى الإطاري فلا تعدو أن تكون محاولة لصرف الأذهان عن التناقض الذي أوجده الاتفاق الإطاري وأشعل الحرب، وهو اتفاق مصمم على قطع الطريق أمام عودة الإسلاميين للحكم وتكوين حكومة مستتبعة للغرب والإمارات تحديدًا.
الإطاري نفسه ليس له من الديمقراطية نصيب، ولكنه نمط حكم معين مناوئ لقيم الدين ومتماهي مع الشرعة الدولية المتمثلة في سيداو وغيرها من المشروعات والبرامج التي لا ترقى لقيم المجتمع السوداني المحافظ والمسلم.
الاتفاق الاطاري مشروع صمم ومُوِّل من الخارج، وأريد فرضه على قيادة الجيش بواسطة الدعم السريع بقوة السلاح، هناك معلومات كثيرة ومتواترة في هذا السياق توضح تآمر مجموعة محدودة من الأحزاب المشار إليها، وتنسيقها مع قائد الدعم السريع في سبيل فرض الاطاري.
وتكفي أيضًا التصريحات الشهيرة والمتواترة من رموز مركزي الحرية والتغيير بأن البديل للإطاري هو الحرب، وهي تصريحات معلنة وموثقة ولا يمكن إنكارها مهما حاولت تلك القوى أن تلعب بالألفاظ وتصرف الناس عن حقيقة الأمر بتمويهات العبارات.
كيف ترى الفعل السياسي ومواقف النخب والقوى السياسية والاجتماعية في خضم الحرب الحالية؟
أعتقد أن ثمة اصطفاف واسع جدًا من الشعب السوداني مع الجيش بوصفه المؤسسة الوحيدة التي بقيت، برغم ما يمكن أن يقال في نقد قيادة الجيش . وهو اصطفاف مستحق بسبب قومية الجيش في محيط هادر من الاتجاه لحمأة القبيلة بجانب المنطق الجهوي والاثني والمناطقي، اصطفاف لم تعقه التهم التي ترد حول ولاء الجيش بفعل السردية المخدومة إعلاميًا ، وعزز ذلك تقاسم كل الناس في السودان آلالام وويلات الحرب والخراب ربما بصورة لم تحدث إلا في حملات الدفتردار الانتقامية، أو مع واقعة فتح الخرطوم على يد جيش المهدي.
ومع تواتر الفجائع والفظائع التي حملتها يوميات الحرب، يستطيع المراقب الحصيف أن يلمح تعاطف القوى اليسارية والليبرالية مع “الجنجويد”، ويكفي أن إشهار شعارها لا للحرب أتى ضمن خطاب عام مناوئ للجيش الرسمي، ومتسق مع رؤية ورواية المليشيا حول الحرب وهو ما لا يمكن أن يصرف الناس عن حقيقة أن من يقوم بفعل الاعتداء واجتياح المدن والقرى والنجوع النائية، ويسرق ويغتصب هم كتائب “الجنجويد”. وأن بريق الشعار المرفوع لا يستطيع أن يخفي واقع الانتهاكات من جهة، ولا يستطيع أن يخفي أيضًا حجم الخبث والمكر المبثوث في ثناياه.
لم أزل عند رأيي بأن النخب يمينها ويسارها قادرة على معالجة كل الإشكاليات القائمة بفعل الحرب الراهنة إذا جلست القرفصاء على الأرض، وغلّبت هم الحفاظ على البلد والحرص على بقاء الدولة وحماية المجتمع على همومها الأخرى، مع ظني الغالب بأن اليساريين والليبراليين سيخسرون بصورة فادحة كل مكاسبهم المؤقتة والمحمولة على روافع مشروعات التدخل الخارجي.
باستطاعة السودانيين أن يتجاوزوا خلافاتهم والوصول إلى صيغة مرضية توقف الحرب وتفتح صفحة جديدة في تاريخ السودان.
سبق للمحكمة الجنائية الدولية أن اطلعت بالنظر بموجب الإحالة من مجلس الأمن، فيما وصفت بانتهاكات واسعة نسبت لذات القوى المتهمة حاليًا بممارسة جرائم حرب في فضاءات إقليمية متباينة في غرب دارفور وفي الجزيرة وفي عمق العاصمة، هل ترى من سبيل إلى عودة الجنائية الدولية وإجراء تحقيقات بخصوص ما تم من انتهاكات واسعة وتحت أي غطاء يمكن أن يتم لها ذلك؟
يرى خبراء أن المحكمة الجنائية يمكن أن تحضر في سياق المضاغطة والتخويف، وذلك مع اشكالياتها الواضحة كونها تعد بلا أداة من أدوات الهيمنة الدولية. وأرجح أن تنفذ إلى ذلك وفق المانديت السابق، أعني بموجب الإحالة من مجلس الأمن، ربما يرد الآن تلويح أو حديث مباشر عن اتهام قائد الدعم السريع ونوابه بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والتي يمكن أن تسمح وفق القانون الدولي بالتدخل لفض الاشتباك القائم وزجر الدعم السريع وتخويفه. سيجد المراقب أن تقارير كثيرة تسعى إلى تخفيف حدة الجرائم ووصفها بكونها جرائم ضد الإنسانية حتى يتم تجاوز المحاذير التي تفرض التدخل الإنساني.. وإذا نظرنا إلى مسار الإدانات الغربية الرسمية لما يجري في حرب السودان، سنرى بوضوح تحاشيها لوصف ما يحدث في الواقع ومنح الأفعال الجارية توصيفاتها الملائمة، وهو ما يضاعف المهام على الدبلوماسية السودانية في كشف ما يحدث بدقة وحيادية ومهنية. ليس فقط ما يقوم به “الجنجويد”، ولكن ما تقوم به الدول من مساعدات كذلك على مستوى التسليح والإمداد، وهي درجة أخف من جلب المرتزقة ونقلها من الأصقاع الإفريقية التي ترقى إلى المشاركة في جرائم الحرب القائمة في السودان.
أدرت ملف العلاقة الدبلوماسية قائمًا بأعمال السفارة السودانية في أمريكا، كيف ترى موقف الولايات المتحدة من سودان ما بعد الثورة وما هي محددات موقفها؟ وكيف تنظر إلى موقف أمريكا حيال حرب السودان الحالية؟
قبل قيامي بأعمال السفارة في أمريكا كنت مديراً للشؤون الأمريكية بوزارة الخارجية لمدة ثلاث سنوات، مما أتاح لي فرصة الاطلاع على اتجاهات السياسة الأمريكية على السودان، وقد أتيت إلى أمريكا سفيرًا من اليابان بعد أن تم سحب السفير مهدي إبراهيم من أمريكا احتجاجاً على ضرب مصنع الشفاء رغم توسل الإدارة الأمريكية على إبقائه، لحرصها على استمرار العلاقة على مستوى السفراء. في ظل ممانعة السودان حينها وهو أمر مفهوم في سياق العداء الشديد الذي أتيت لتخفيف حدته، ونزع فتيله ضمن مهمة محددة تزامنت مع انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش في عام 2000م، الذي بادر البشير حينها لتهنئته ورد بوش التحية بأحسن منها، وقرر فتح السفارات وبتأثير من منظمة اليمين المسيحي التي طالبت بوقف الحرب في جنوب السودان على رأس أولويات إدارة جورج بوش الإبن، وعللوا ذلك بأن السودان تمكن من استخراج البترول، ويوشك أن يستفيد من ريع النفط في رفع مستوى تسليحه، وبالتالي القضاء بصورة نهائية على الحركة الشعبية. فتوجهت من طوكيو إلى واشنطن لفتح السفارة والانخراط بصورة مباشرة في التفاوض لإنهاء حرب الجنوب، والتي استمرت بصورة شاقة على مدار ثلاث سنوات حتى تم تتويجها في يناير 2005 بنيروبي، وكان تقدير الإدارة الأمريكية أن انتصار بوش في هذا الأمر سيعيد تسويقه لفترة رئاسية قادمة وقد كان. لقد تعهدت إدارة الرئيس بوش بأنها ستتجاوز محطة العداء إلى التعاون فور توقيع الاتفاق وتنفيذه، وبالفعل بدأ البيت الأبيض في رسم خطوات عملية لتجاوز العقبات المعقدة والشاملة والكثيفة والمحيطة بكل الجوانب.
لكن للأسف استطاعت حركة قرنق أن تشعل الأوضاع في دارفور عبر حركتي مني آركو مناوي وحركة عبد الواحد، وساهمت برغم مزاعمها التقدمية بحقن النسيج الاجتماعي وإرباك المشهد العرقي في دارفور، واستعانت الحكومة بحرس الحدود التي اتضحت أنها قوات جنجويد، وارتكبت فظائع بحكم طبيعتها المتوحشة، وقد تم استغلال كل ذلك لقطع الطريق أمام عودة العلاقات السودانية الأمريكية، لا سيما من الدوائر الصهيونية ومنها معهد الهولوكست وهو ما رصدته في كتابي بصورة تفصيلية (The Making and the Breaking of the United Sudan ) وقد دونت الاعترافات الدقيقة لدور قرنق في صناعة حركات دارفور، وتم منحنا وعد جديد حول تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة إذا توصلنا مع المجموعات المسلحة في دارفور إلى اتفاق سلام، حيث رعى روبرت زيلك نائب وزيرة الخارجية الأمريكية جولة مفاوضات مع مني آركو مناوي، وفور إنجاز الاتفاق تم نقله إلى البنك الدولي وتبدد الوعد على مفارقة السياسة العملية التي تعني تجاوزها لعوالم الأخلاق والالتزامات القيمية.
لقد وقفت بنفسي خلال عملي قائمًا بأعمال السفارة في واشنطن على هامشية ملف السودان، وذلك في سياق السياسة الأمريكية، ربما زادت أهميته الآن مع الحديث الرائج لما يذخر به السودان من مصادر للمياه العذبة وإمكانياته الزراعية، فضلاً عن الصراع في البحر الأحمر والتنافس الإقليمي الدولي بين عدة دول منها روسيا عبر فاغنر، والصين بجموحها نحو إفريقيا بالإضافة إلى دول الخليج التي ترنو إلى الاستثمار الزراعي في إطار سياسة البدائل وعدم الاعتماد على النفط، مع النزاع العام لعالم ما بعد النفط (هناك اتجاه إلى جعل نصف السيارات في أمريكا مثلاً تعمل بالكهرباء)، وحتى الهند، كما أن لإيران كقوة إقليمية صاعدة أيضًا ميل جيوسياسي إلى منطقة البحر الأحمر.
ومع ذلك لا يزال السودان موضع استشارة من جانب حلفاء أمريكا في المنطقة، ولا تتعامل معه بصورة مباشرة، ولم يزل متروك لما يسمى بالخبراء حتى من السودانيين، بمن فيهم السفير الحالي الذي لم يكن بعيدًا مما جرى بخصوص الاتفاق الاطاري وورش الإصلاح الأمني والعسكري الذي فجّر الحرب الدائرة.
لم تزل الإدارة الامريكية مرتهنة لآراء بعض السودانيين “الخبراء” بخصوص التخويف من الإسلاميين السودانيين، بالرغم من تعاملها معهم ونيتها رفع العقوبات وشطب السودان من الدول الراعية للإرهاب في أبريل نفسه الذي قام فيه التغيير 2019م . هناك محاولات من الكونغرس إلى إرسال مبعوث يتجاوز الشؤون الإفريقية بالخارجية، بما فيه (السيدة / فيدي ونائبة الوزير للشؤون السياسية والسفير جيفري) لعملهم لصالح مجموعة الإطاري من جهة، وتعاونهم مع الإماراتيين من جهة أخرى، لقد أراد الكونغرس بهذه الخطوة أن يتجاوز الحكومة الأمريكية التي لم تستطع إيقاف الإمارات عن دعم قوات الدعم السريع وتعقيد الأوضاع الإنسانية في أكبر مفارقة في السياسة الأمريكية تجاه السودان، حيث كانت في السابق مجموعات الضغط هي من تحرك السياسة المعادية للسودان من تلقاء الكونغرس، وما زال الصراع قائمًا بين الخارجية والكونغرس حول المبعوث.
ما يهدف إليه الكونغرس أن يأتي مبعوث من الرئيس يتمكن من مخاطبته مباشرة واطلاعه على الأوضاع وبالتالي معالجة القضية، والذين يعرفون طريقة العمل لا سيما في السياسة الخارجية كما ذكر كسينجر فإن المنطق المعمول به مبني على إحداث صفقات ومساومة الملفات، مثل تمرير دعم أوكرانيا مقابل دعم إسرائيل أو نحو ذلك . وإذا أردت الأمر باختصار فأنا لا أرى أي دور للولايات المتحدة في حل المشكلة السودانية تمامًا وبصورة حاسمة، وذلك لأثر مجموعات الضغط في صنع السياسة والتأثير على مراكز القرار هناك.
كيف نفهم استقطاب دول الجوار للاصطفاف في دعم قوات الدعم السريع، حتى في ظل ما يمكن أن يتناقض مع مصالحها، ما هي الرهانات الخفية التي أنتجت هذا المشهد الملتبس؟
ليس غريبًا هذا الاصطفاف من دول الجوار، وهو أمر معتاد في السياسة الإقليمية المتماهية مع القوى الخارجية المهيمنة، حيث تم من قبل تسليط إثيوبيا وإريتريا ويوغندا، والآن دخلت تشاد على الخط مع التباس موقف جنوب السودان وخروج إريتريا من هذا الاصطفاف ، ويعود السبب القريب المباشر إلى ضعف هذه الدول وسهولة إغرائها بالمال، فضلاً عن نمط حكمها الاستبدادي. الإيغاد التي ساهم السودان فيها هي محض لافتة تخفي تدخل الدور الغربي كما حدث في إدارة ملف التفاوض في قضية جنوب السودان من قبل الترويكا (النرويج/ بريطانيا/ أمريكا)، لقد ذكرت هيلدا جونسون ذات اجتماع أن الإيغاد هذه مجرد لافتة ولا حول لها ولا قوة بغير القوى الغربية والدعم والاسناد الغربي، ليس الإيغاد فقط وإنما الاتحاد الإفريقي نفسه مجرد أدوات للضغط على السودان في هذه الحرب.
كان في مقدور السودان أن يتعامل بحسم إزاء دول الجوار وتدخلهم السافر في شؤونه الداخلية بدعم “الجنجويد”، إذ يستطيع أن يستضيف الحركات المتمردة والمعارضات المسلحة في هذه الدول ويقدم لها العون والدعم.
على السودان اذا انتصرت إرادته في هذه الحرب أن يصوب سياسته الخارجية، ويحدد بدقة من هو عدوه الاستراتيجي ومن هو صديقه الاستراتيجي، وهو الذي يمتلك موارد ضخمة وموفورة تجعل نخبه وقواه الوطنية الحية تقرر سياق أمنه القومي وقائمة المخاطر والمكاره التي تهدده.
لا تبدو الخارطة الدبلوماسية للدولة السودانية التي فقدت منصة انطلاقها المركزي في الخرطوم وأطلت من ساحل البحر الأحمر ، لا تبدو الخارطة واضحة إن لم تكن متخبطة، كيف تقيم أداء الدبلوماسية السودانية حالياً وما هي مظان الإعاقة في مساراتها وتحركاتها لإيقاف الحرب وإقرار السلام؟
لا شك أن الزملاء والزميلات في الخارجية لديهم قدرات عالية في إنفاذ رؤى دبلوماسية وطنية تمثل السودان ومصالحه خير تمثيل، بيد أن الضعف الذي يتراءى الآن هو ليس ضعف الدبلوماسيين، وإنما هو ضعف الدولة ككل. فليس في مقدور الخارجية أن تنسحب من الإيغاد أو من الإتحاد الإفريقي لوحدها، وإنما يتم هذا الأمر على مستوى رأس الدولة ووفق توجيهاته، ولعل المادة (28) من الدستور المعطل أشارت بوضوح إلى أن رئيس الجمهورية هو أعلى ممثل للدبلوماسية، وبطبيعة الحال ينطبق هذا الأمر على الدول ككل وفي أمريكا بوجه خاص يشكل منصب رئيس الجمهورية أحد أهم موجهات السياسة الخارجية والتعبير عن المواقف الدبلوماسية.
هناك خلل واضح جدًا في الدولة انعكس على الدبلوماسية الغائبة برغم الإشراقات والومضات الدبلوماسية لصالح السودان، ومنها ما تم بخصوص إنهاء بعثة يونامتس والدور المقدر لبعثتنا بواشنطن في هذا الصدد. فضلا ً عن أدوار البعثات الأخرى في القيام بواجباتها المهنية في ظل ظرف ضاغط وكف الأذى القادم من مجلس الأمن بكفاءة عالية.
كان في الإمكان أن يتم تبني سياسة واضحة في مجابهة الدور الإماراتي وكفكفة غلوائه وتقوية القنوات الدبلوماسية المعبرة عن هذه المواقف، بجانب إسناد ذلك بخطاب واضح وقوي ينطلق من سيادة الدولة وحقها في رد عدوان المليشيا “الإجرامية”، وفضح الأدوار المشبوهة بغرض استتباع السودان ومن ثم ابتلاعه لصالح مشروع المحاور الإقليمية المعروف.
آمل أن يعيد الرئيس بناء خارطة حيوية وفعالة للسياسة الخارجية قوامها ومدارها مصلحة السودان، واغتنام الفرص الدبلوماسية وهو واجب اليوم قبل الغد، غير أن التردد الملازم للقيادة الحالية يهدر كثير من الوقت في إعطاب قدرات الدولة وسوانح خروجها من مأزقها الراهن.
كيف تقيم دور الإيقاد فيما يجري ورد فعل الدولة السودانية بتجميد المشاركة فيها؟ مع النظر إلى الإيقاد القديم منذ النصف الأول من عقد التسعينيات في ملف السلام ابتداء من إعلان المبادئ وحتى توقيع نيفاشا؟ وكيف ترى إرادة الدول ودور الشركاء في توجيه السياسات واتخاذ القرارات؟
أرى أن الإيغاد أصبحت من الماضي تمامًا، وليس لدي مانع أن يخرج السودان من المنظمة نفسها، كما خرجت إريتريا من قبل حتى منظمة الـ (AU)، لم تعد فعالة كما في السابق ويكفي رأي الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا حولها من أن عدم قدرتها على تمويل أنشطتها يمثل إحدى نقاط ضعفها الجوهرية، و”من يدفع للزمار يطلب اللحن كما يقول الأمريكان.
ترد أنباء متباينة حول إعادة العلاقة مع إيران، أو بتعبير آخر العودة من حضن المجتمع الدولي الذي مثلته دبلوماسية الانتقال، وتمثلت في مسارها المضاد لحقبة الإنقاذ، واليوم يزور البرهان الجزائر على ماذا يراهن البرهان بخطواته تلك؟ أهو الاستثناء الحالي المنصوب بفعل الحرب؟ ما الذي دفعه لذلك.. أم ثمة هنالك نزاع أصيل معادي للغرب في العناصر المحيطة بسلطة الأمر الواقع في السودان؟
سبق أن سُئلت عن قطع العلاقات مع إيران في التلفزيون السوداني قبل سقوط الإنقاذ، فذكرت أن القرار كان متعجلًا وخاطئًا وأتى مجاملة لدول أخرى على حساب المصالح السودانية في إطار عاصفة الحزم، يكفي أن المملكة العربية السعودية استعادت علاقتها مع إيران، وهي تنطلق في سياساتها الخارجية من مصالحها ورؤيتها لتلك المصالح المحسوبة بدقة.
ما الذي يجعل السودان في عداء مع أي دولة لا تبادله العداء ؟ وفي أي سياق وضمن أي مسار مؤسسي اتخذ هذا القرار الخاطئ؟ بكل تأكيد هذا الأمر يظهر إشكالياتنا العميقة وعجزنا الوطني الواضح الذي أنتج الأزمة عوضًا من أن تنتجه.
ما هو تقييمكم لتعددية المنابر التفاوضية وأيهما أقرب إلى بناء اختراقات حقيقية تقود إلى السلام؟ جدة أم الإيقاد أم دول الجوار أم مسار المنامة الذي يختمر من وراء حجاب؟
أحيانا يأتي الفعل السياسي عن غير قناعة، ربما لاعتبارات دبلوماسية أو مجاملات أو نحو ذلك، وبحساب الربح والخسارة وترجيح المصالح سنجد كثير من المواقف غير مبنية على تقديرات المصلحة الوطنية. نحتاج إلى ممارسة السياسة الصرفة والعملية وتقييم مقومات الجغرافيا السياسية وموارد قوتنا، وميزاتنا النسبي منها والمطلق وما نريده من العالم، وما يريده منا وما هي مساحات التبادل والمناورة والمساومة، ومتى نقول لا ومتى نقول نعم وضمن أي سياقات واشتراطات.
أي دبلوماسية مهما بدت فعّالة لن تكون بديلاً عن عمل النخبة وتواضعها على الحلول الوطنية الشاملة والجذرية، لن نستطيع أن نُخرج الجيش وقوى عنف الدولة بلا توافق عميق على قواعد اللعبة السياسية والتداول السلمي للسلطة وبناء نظام سياسي راسخ، سيظل قادة الجيش راغبون في السلطة، لأن القوى السياسية تلجأ إليهم كل حين لحفظ النظام وحماية الاجتماع المشترك، وما لم تقم هي بأدوارها وواجباتها وتجسير فجوات الثقة والظنون والتربص فسيظل الجيش في قلب عملية الحكم شاء من شاء وأبى من أبى.
كيف ترى سودان ما بعد الحرب ؟ كيف نبلغ مقام الدولة الوطنية القادرة والراغبة في تأسيس عقد اجتماعي جديد يخرجنا من حالة التيه التاريخي إلى بناء الأمة السودانية ؟ هل بات هذا الأفق ممكنًا أم غدا متعذرًا بفعل ما نجتازه من محاصات معقدة وعصيبة في آن؟
نحتاج بالفعل إلى جيش “نخبة” مختلف سريع الحركة عالي التدريب قوي جداً ذو عقيدة وطنية راسخة يستطيع أن ينجز عمله بمهنية لحفظ الحدود والنظام السياسي والدستوري. جيش يلتفت لمهامه الحقيقية و لا ينصرف إلى إدارة الشأن المدني، أما المطلب القاضي بخروجه عن السياسة فهو ممكن إذا تراضت النخب السياسية ورغبت في البناء رغم دعوات التجزئة والتفكيك المنطلقة والمنطلية بخطاب الهويات الجزئية. فأهل السودان في جموعهم وعلى مستوى نجوعهم مؤمنين بسودان واحد قوي متماسك وقادر، ويستطيعون إنجاز الوطن الذي يدور في مخيلتهم في فترة لا تتجاوز (10) سنوات من خلال منح الأقاليم -ولتكن ستة أقاليم قوية- حكمًا فيداراليًا حقيقيًا، مع بناء مؤسسات قوية ومركز جذب سلطوي قوي في الخرطوم بمؤسسات راسخة وخلاقة وصياغة منظور محكم للأمن القومي في ظل المخاطر الكبيرة التي تهدد السودان بفعل المطامع المحيطة به. لدينا مثال مبهر جمعنا به ذات النمط الاستعماري البريطاني هو الهند وما بها من تباين عميق، ظل يعطي العالم أمثلة حية على تحقيق دولة مدنية قوية ومستمرة وناهضة ومنفتحة ووفية لتراثها ونظمها الأخلاقية دون فرض أي رؤية أحادية، فما الذي ينقص السودان لتحقيق نموذجه القائم على تميز نسيجه وتفرد إنسانه وعمق حضارته وثراء ثقافته، ما الذي ينقصه فعلاً؟.