بروفيسور عزالدين عمر موسى
كانت من عادة أبي الصحف احمد يوسف هاشم ان يعقد جلسات اجتماعية فى بيته الجديد فى الخرطوم 2 الحي الراقي حديث التأسيس وذلك مطلع الخمسينات الى وفاته فى عام 1958م وهي شبه ديوانية يحضرها نخبة من اهل الفكر والادب والسياسةولكن بصورة غير منتظمة، أذكر منهم المحجوب وحليم والمرضى وداود عبداللطيف وأحيانا يأتيهم عبدالرحمن مختار بأخبار الصحف، قبيل زواجه من أم سلمة، وأبو الصحف خالها، وقبل تأسيسة جريدة الصحافة. وتلك الجلسات مائدة فكرية سياسية صنعت فيها أو حولها أو بدعم بعض رجالها شيئامن بعض الأحداثه.
وكنت من صبيان الأسرة ثم شبابها المحظوظين القلائل الذين شهدوا بعض تلك الجلسات لأن أبا القاسم هاشم ابن اخته الفقيرة بت صلحة محمد موسى ولأن والدي ابن خاله احمد محمد موسى ،وكنا في الأميرية الخرطوم القديمة(الآن برج البركة) وتفصلها ساحة ابجنزير عن مكاتب صحيفته “السودان الجديد”، ويصحبنا كل ما كان معه ضيوف، واستمر ذلك ما تيسر الى وفاته رحمه الله.
وفى الذاكرة من ذلك أشياء كثيرة وأبدأ بيوم أبلغ الزعيم الأزهري البرلمان بأنه سيعلن استقلال السودان من داخل البرلمان فى اليوم التالي.أذكر تماما ذلك اليوم وكان عمري 19 عاما وتوافد عدد كبير إلى بيت أبي الصحف من رواد الديوان من البرلمان وساحاته يشوبهم قلق وتوتر مما سيحدث يوم غد إذا لم يؤمن الاجماع الوطني لإعلان الأزهري الإستقلال من داخل البرلمان، وصارت التخوفات سحب كثيفة مخيفة تغطي سماء الخرطوم يومذاك، المصريون لن يرضون وقد يؤثرون على وحدة الوطني الاتحادي ، البريطانيون يتخوفون من زعامة سودانية أفريقية والنذر تشير إلى انبلاج فجر ناصر ونكروما وسكتوري ونيريري وربما ، والخوف أن يلعبوا ورقة الكتلة الإستقلالية ( الأمة)أو الجنوبية. هكذا كانوا يحللون ويتخوفون وأجمعوا أن القرار المفتاح بيد الكتلة الإستقلالية، وإذا وقفت مع المقترح سلمت الجرة وإلا تحامى بهم الخائفون من زعامة الأزهري ووقعت الفتنة.
هرعوا عصرا خائفين يسعون لوأدها فى مهدها مثل كثيرين غيرهم منهم رفيقاهما المحجوب وشيخ المرضي أخطر سياسيي المرحلة وغيرهم كثير ، لأن الخرطوم فى مسائها ذاك خائفة تترقب، وعلتها هموم ،وتغشاها وجوم، وكان الناس فيما يظنون ان احتمال الكارثة أقرب.
وعاد أحمد وإخوته ومن غاب عصرا وهاماتهم مرفوعة وجبينهم يشع نورا وعلى شفاههم ابتسامات مطبوعة وهم يتداولون الخبر،لقد فعلها الإمام القامة وأعلن أنه صاحب مشروع استقلالي لا يهمه من سيعلنه،وأوفد السيد الصديق ومامون شريف ونقد الله إلى الأزهري يتفقون معه على إجراءات إعلانه الاستقلال لأن المهم الإعلان لا من يعلنه على أن يرجعوا إليه قبل مغيب الشمس. وحكي لي الرواية ذاتها الأستاذ محمود الفضلي فى عام 1980م وكان الفضلياب وقتها أزهرياب وقال لي إن الناس كانت متوترة قلقة وخائفة مما قد يحدث فى الغد وأحداث مارس ليست ببعيدة، وجاء وفد الأمام بالبشرى وهدأت النفوس واطمأنت القلوب واستيقنوا من نجاح الإعلان وسلامة البلد وتفشى الخبر وأمسى ليل الخرطوم فرحا راقصا منتظرا شروق الفجر الجديد.وهكذا غدا الناس أمة واحدة لأن الإمام “أمة”، ولأنه هو السودان و السودان هو. فلا تعجب أن يجهش بالبكاء والدمع يجري وعلم السودان يرفع.
إن هذا “الأمة” الإنسان هو السودان فى سائر ما فعل، فى بنائه طائفة الأنصار وعلمها هلال الشمال يعانق حربة الجنوب ، وحزبه السياسي لكل سوداني يروم استقلال بلاده لأن شعاره “كل أنصاري حزب أمة وليس كل حزب أمة بأنصاري”،مستقطبا الجم الغفير ممن نالوا التعليم الحديث من أبناء الأنصار وغيرهم.
ثم إن هذا السوداني “الأمة” فتح داره وقلبه يفك للناس كربهم حتى شاع القول :”فاتحة ابو علوة تصرف عند أبو عبده”.ويقصده كل من أراد ان يسلم، وقصة أبي صلاح والعبادي أشهر من تذكر. وأصبحت داره قبلت القصاد من المثقفين والادباء والشعراء و أهل الفن سيما يوم عيد ميلاده فى أول عيد رمضان . وما خريدة المحجوب فيه ” العيد وافى فإين البشر والطرب” إلا ميثاق قيم الإمام الأمة السودان. فمتى تدرس !؟ أم كتب علينا تقزيم قاماتنا “السودان” “الأمم” فى ثنائيات متضادة مبيدة فهوينا حتى بلغنا الردى واستحى منا الردي.
ما أعظمك يا إمام، أيها القامة،أيها “الإنسان” أيها العنوان” أيها “السودان” أيها الأمة ” عانقناك فى سانحة فصعدنا وإشرأبت إلى لحاقنا الأنجما.