عبد الله علي إبراهيم
ملخص
عاش السودان عقوداً من الديكتاتورية جراء عقيدة “الطبقة الكسبية” في اليسار واليمين في ديمقراطية غير ليبرالية: صوت واحد للمواطن المستحق. فمتى اعتلت فرق هذه الطبقة دباباتها بليل وحكمت، استبدت بالسلطة وبشعت بأحزاب الكثرة بالحل والمصادرة، بنشاف وجه مرموق.
في مثل هذه الأواخر من ديسمبر (كانون الأول) كان يزين الخرطوم حفل عيد ميلاد الإمام الصادق المهدي في الـ25 من ديسمبر (1935-2020)، إمام جماعة الأنصار التاريخية ورئيس حزب الأمة القومي. فيجتمع فيه أحبابه الأنصار وغير الأنصار. بل كان الحفل سانحة الأخيرين ليردوا له دين حفاوته بهم وإصغائه لهم، ودماثته ونبله. بل والاعتذار عن طول شغب كثر منهم بوجهه لعقود. وانطوى هو على صبر كتوم لتواقح لم تهدأ ثائرته من خصوم لا يرعون عرفاً. ولكنه لم يغادر الدنيا إلا وقد أطلعنا في مقال الوداع عن سريرة الأذى الكثير الذي مني به كإنسان. فقال إن “من أدهش ما منيت به مقولة: الصادق أعجوبة! وأنه لا يمرض”. أطلعنا الإمام على جراح إرعابنا الطويل الشقي له وهو في براثن مرض الكوفيد وظننا فسقاً أنه لن يطاله.
لنرى لوهلة كيف تأذى منا.
السبيل الثاني
أما سبيل الطبقة الكسبية الثاني للتأثير في الأحزاب التقليدية فهو بالزحام عند بابها مطالبة إياها بأن تطور أو تحدث حالها لتنصلح الديمقراطية. فانتهت أحزاب الكسبيين في الوسط واليسار خصوصاً إلى محاق حتى سار القول إن عضوية الواحد منها لا تملأ حافلة ركاب. واعتزل هذه الأحزاب نفر منها اتفق لهم الانضمام إلى الأحزاب التقليدية، ولكن بنوع من الإزعاج. فأرادوا حملها على ما عرف بـ”المؤسسية” وهي أن تصلح نفسها بطلاق بينونة للحزب من أسرة الزعامة في الجماعة الدينية. فانطبق على هؤلاء المصلحين المشردين سياسياً قولنا “الكديسة أم خيط”. وتقال هذه العبارة في الذي بلا دار يتغشى الأبواب.
فظل هذا النفر اللحوح طوال “عهد الإنقاذ” يدعو أحزاب الغزارة مثل “حزب الأمة” أن تتحول إلى المؤسسية كما مر. وهذه عودة ركيكة لخطة الجيل الأول من “الطبقة الكسبية” في الأربعينيات خلال الحركة الوطنية مثل محمد أحمد محجوب، رئيس الوزراء عن حزب الأمة في النصف الثاني من الستينيات، الذي طلب الوجاهة السياسة بالانضمام للأحزاب التقليدية بغير قيد أو شرط. أما جيل اليوم منهم فيريد نفس الوجاهة بشروطه يتطفل بها على تكوين هذه الأحزاب التاريخي. إذ دخل في روع هذه الفئة أنه يمكن أن يكون في زعامة هذه الأحزاب من الناس غير مثل الإمام الصادق. كأن لهذه الأحزاب سبباً للوجود غير تسلسل التاريخ والبركة في أبناء وبنات المؤسس الأول. وواضح أن التذرع بالمؤسسية هذه هو خطة لاختطاف هذه الأحزاب الطائفية لا إصلاحها. وكان الإمام الصادق يستمع لهذه الفئة بدماثته المعروفة بخلاف السيد محمد عثمان الميرغني، زعيم جماعة “الختمية” والحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي كلما قالوا له “المؤسسية” رد عليهم بـ”المرجعية”، يعني نفسه، فشتت شملهم.
تجارب إصلاحية
ومن الزاوية التاريخية لا تزال أكثر التجارب واقعية في إصلاح الطائفة وحزبها ما قام به السيد الصادق المهدي في منتصف الستينيات. وميزة هذا الإصلاح أن قام به الإمام وشيعته أصالة عن أنفسهم ودفعوا كلفته برضى، وهو ثمن فادح قسم الطائفة وفرق الحزب. فأراد الإمام تجديد الطائفة والحزب بحملهما على الحداثة في شرطها الذي لا مهرب منه. فكانت الحداثة شاعت في المجتمع عرضاً وطولاً في النقابات والاتحادات وتجمعات القبائل. وترتب على هذا أن أضحت ممارسات طائفية كـ”الإشارة” (أن يتبع الأنصار إشارة إمامهم سمعاً وطاعة) موضوع نقد واستهزاء. ولم يكن بمقدور الطائفة أن تستمر في الوجود بغير تعديل صفتها لتأخذ في الاعتبار مقتضى الحداثة وعاداتها. ولم يأت الإمام الصادق إلى تحديث الطائفة والحزب يجرجر رجليه. فهو نفسه منتج للحداثة كما كشف عن هذا كتاب ترجمته “سيرة ومسيرة” (2015 – 2016) الذي حررته ابنته رباح الصادق. فكان تأثير أمه رحمة بنت عبدالله ود جاد الله مثلاً كبيراً. وكانت شغوفة بقصص المهدية والأنبياء وبغناء الحقيبة لعشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته. ولها صالون أدبي وانشغال بمسألة النساء. فكونت جمعية “ترقية المرأة” لتلك الغاية. بل ظل الإمام الصادق من وراء مشروع ظل يرعاه منذ الستينيات حتى وفاته وهو تحويل جزيرة آبا، التي دارت فيها أول معركة في المهدية ضد الحكم التركي المصري في عام 1881 ومعقل أسرة المهدي، وأرضهم فيها إلى تعاونية للأنصار تكفل لهم العيش الكريم.
الإمام شهيد الديمقراطية التي يريدها الكسبيون. وللمفارقة كان هو الكاسب منها لـ”ذنب” لم يقترفه وهو ميلاده في بسطة من الخلق التي تمحضه ولاء خالصاً لله والوطن. فكرهوا منه كرئيس الوزراء الخطابة صرفاً للأمر. فقالوا إنه كثير الكلام قليل الفعل حتى سموه “أبو الكلام آزاد” على اسم أول وزير للتعليم في الهند المستقلة. وحاكموه هنا كما لا يخفى بعادة الاستبداد لا بعادة الديمقراطية. فقد نشأ أكثر الجيل الحاضر من الكسبيين في ظلال نظم ديكتاتورية يصدر زعيمها قرارات في خطر تحويل السودان إلى الاشتراكية، أو الإسلام بليل. ولا نأمة. وهذا بخلاف الإمام الصادق رئيس الوزراء المنتخب من أعلى إلى أسفل، الذي ما جاء إلا بالديمقراطية التي تلجمه بتحالفاتها وبرلمانها وقضائها وصحافتها وشارعها السياسي الذي لا ينضب. ولو كان خصومه ديمقراطيين حقاً لحمدوا له تصريف الأمر باللغة حتى يرسى، وإلا كان سلم الحكم للقوات المسلحة كما فعل عبدالله خليل رئيس الوزراء عن حزب الأمة في عام 1958 حين ضاق ذرعاً بـ”ألاعيب” السياسة كما قال. والديمقراطية كلام وليس من شاهد قاطع على هذا من “الفلبستر” في الديمقراطية الأميركية. وهو حال كلام لساعات بل لأيام ولياليها يدخل فيها النائب أو النواب الذين يريدون تعطيل إجازة مشروع لا يتفق معهم.
إذا استحق شخص ما نسبة الفضل إليه منفرداً في تمديد عمر النظام البرلماني في آخر الثمانينيات، على علاته، فهو السيد الصادق المهدي. لقد أخطأ الصادق مرات ومرات ومرات ولكنه لم يرتكب الخطأ القاتل وهو إدارة ظهره نهائياً لنظام التعددية الحزبية كما فعل الليبراليون في رابعة النهار. فظل يبدي ويعيد ويشرح صورته لهذا النظام، ويتمسك بها بغير كلل ولا ونى حتى عددناه “أبو كلام”. ويرثي المرء له يوم لم يجد ميزة لحكومته غير قوله إنها أطول حكومة ديمقراطية استمرت بغير أن ينقلب عليها الجيش أو غيره. وهذا من باب العودة من الغنيمة بالإياب. وانقلبوا عليه في خاتمة المطاف.
طب حيث أنت يا الإمام الصادق في رحاب أرحم الراحمين.