بقلم: خالد سعد
تصاعد مؤخرا توجه سياسي وإعلامي يناقش قضايا الفساد أثناء الحرب الكارثية المندلعة في البلاد منذ الخامس عشر من أبريل العام 2023م.
هذا المقال لن ينخرط دون أدلة في تفاصيل هذه الظاهرة بتوجيه الاتهامات أو إدانة جهة بعينها، لأن هذه المهمة معنية بها التحقيقات الصحفية الاستقصائية، والمؤسسات العدلية المهنية.
يناقش المقال تداعيات الحرب على الاقتصاد، من منظور أن للحروب في الدول الهشة مثل السودان أمراء ظل، حيث تنشأ مجموعات صغيرة جديدة مستفيدة من هذه الحالة أو مجموعات قديمة تستعيد نفوذها عبر اقتصاد الحرب، ونستعير في هذا الصدد مفهوم (أوليغارشية) اقتصاديات الحرب، لربما هي الأكثر دقة في توصف الشبكات الاجتماعية والمجموعات الصغيرة العدد صاحبة المصلحة.
في البدء لابد من الإشارة إلى علامات دالة، مثل تركيز (الأوليغارشية) على قطاعات استثمارية محددة نامية أو مستحدثة، وانتشار السوق السوداء، وارتفاع نسبة تهريب الذهب، والانخفاض الحاد والمفاجئ للعملة دون تدخلات معلنة من الإدارة الاقتصادية أو عوامل اقتصادية واضحة وطارئة على المشهد الاقتصادي الحرب، باستثناء تأثيرات ما أعلنته حكومة كامل إدريس مؤخرا.
من العلامات الأخرى البارزة أيضا، سيطرة بعض المجموعات على سلاسل إمداد ترتبط بدول إقليمية مثل تصدير الذهب والنفط إلى الإمارات، ما يمنحها موارد واستقلالية مالية، والبدء في ممارسة تأثير متزايد عبر وسائل الاعلام أو السياسة أو الضغوط الاقتصادية من أجل التمكن من السيطرة على اتخاذ القرار السياسي في الدولة.
ويسهم في كل ذلك، الفراغ الذي يسببه غياب المؤسسية المحوكمة والفوضى الإدارية، إضافة إلى الفراغات التي تنتج من هروب رؤوس الأموال التقليدية التي كانت سائدة قبل الحرب، والاستثمارات الأجنبية، خصوصا في قطاعات مغرية مثل التعدين والنفط والتجارة في السلع الاستهلاكية، إضافة إلى شغل المواقع والشركات والموارد التي كانت تسيطر عليها مليشيات الدعم السريع.
من المعروف أن الحرب الممتدة تتطلب تمويلا ضخما يتفوق على تمويل مشروعات التنمية أثناء الاوضاع الطبيعية، فقد أشارت تقديرات أجنبية إلى أن الصرف اليومي على الاشتباكات الدائرة في السودان يتجاوز ملايين الدولارات يوميا[1]، وما يؤسف له أننا لا نستطيع تقدير تمويل الحرب عبر موازنة الدولة لأنها غير معلنة حتى اللحظة[2]. لذا سيكون التقدير معتمداً على تقديرات الخسائر المعلنة، وعلى عائدات أهم الموارد المستخدمة في هذه الحرب بشكل فعال وهو قطاع الذهب[3]، وهو القطاع الذي نشأ منه التوجه الإعلامي الذي يناقش قضايا الفساد حاليا في وسائل الاتصال الرقمي، حيث تشير التقديرات المجمعة من مصادر اقتصادية متنوعة إلى أن عائدا الذهب تمول ما بين 40%- 60% من العمليات القتالية.
ولما كانت الحرب تدار عسكريا واقتصاديا بسرية، فإن الفرصة تكون مناسبة لدخول الوسطاء والطامحين في القيام بأدوار اقتصادية مربحة مستفيدين من حالة السرية وغياب الشفافية في الإدارة الاقتصادية، ومستفيدين من هامش الأرباح الكبيرة التي توفرها عمليات اقتصاد الحرب المكلفة والباهظة الاثمان، سواء في السيطرة على الذهب وتصديره، أو في صفقات السلاح والذخائر أو في صفقات المواد البترولية التي تعد أحد أهم أدوات إدارة الحرب، إضافة لمتعلقات أخرى ضمن حزمة ما يطلق عليه عسكريا (التشوين).
هذا الوضع الاستثنائي الذي تنتجه حالة الحرب، يؤدي إلى صعود نخبة اقتصادية مستفيدة من الحرب (الأوليغارشية)، وبالتالي قد تكون هي نفسها صاحبة مصلحة في استمرارها، بل يمكن أن تجتهد في عدم تحقيق الحسم العسكري إذا كان ممكنا، لأن إعادة الاستقرار والسلم يمنع وصولها إلى المكاسب المتوفرة أثناء الحرب.
ورويدا رويدا تتحول شبكات التهريب، وتجار السلاح، والمسلحين الموالين، إلى (أوليغارشية اقتصادية) تتحكم في أهم الموارد، وتطرح التبريرات المؤثرة لدورها بأعتبارها تدافع عن الدولة نفسها وتمنع انهيارها بالكامل، لكن مخاطر هذه الشبكات الصغيرة كبيرة جدا على مستقبل الاقتصاد.
ومع الاختلالات الهيكيلية للاقتصاد الرسمي، زادت هشاشته وضعفت قدرته على امتصاص الصدمة الناتجة عن الحرب [4]، وأن ما يفقده السودان من بسبب الفساد والتعدي على المال العام يقدر بأكثر من خمسة مليار دولار في العام.[4]
لقد تسببت الحرب في ضغوط غير مسبوقة على النظام الاقتصادي الرسمي، ما أفرز اقتصادا موازيا جديدا يعتمد على الذهب وسبل أخرى غامضة للتمويل، وأسفر عن ظهور نخبة جديدة مستفيدة من الحرب على حساب الدولة والمجتمع (الأوليغارشية)، وظهرت “شبكة عابرة للحدود من الجهات الفاعلة داخليا، والمنتجون للذهب، والمهربون، والحكومات الخارجية”.[5]
يعاني السودان من “غياب الشفافية والمساءلة وهدر الموارد وعدم جذب الاستثمارات، ضعف حماية الملكية، ضعف تنفيذ العقود، مخاطر المصادرة، استغلال غير قانوني للموارد الطبيعية (النفط والذهب)”.[4]
ويخسر السودان مليارات الدولارات من التدفقات غير المشروعة، مثل “تحويلات غير قانونية للأموال، التهرب الضريبي وتحويل الأرباح إلى ملاذات ضريبية، التلاعب بالفواتير التجارية والتهريب، عائدات أنشطة إجرامية مثل الإتجار بالبشر والمخدرات”.[4]
ويؤدي ضعف جودة المؤسسات إلى “هدر الموارد وتسربها، تراجع الثقة في الدولة، بيئة غير جاذبة للاستثمار”.[4]
بالطبع هذا النمط ليس متعلق بالسودان وحده، فهناك حروبا أخرى صنعت نخبا اقتصادية ما تزال تمثل عائقا لاستقرار وتنمية الدولة، مثل ليبيريا، التي أدت فيها الحرب إلى نشوء طبقة من تجار الماس، الذين مولوا الحرب، وسيطروا لاحقا على مفاصل الاقتصاد.[6]
في سيراليون، تحولت الحرب إلى اقتصاد قائم على الماس، حيث كانت الجماعات المسلحة تسيطر على مناطق التعدين وتبيع الإنتاج عبر شبكات دولية.[7]
وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، شكلت معادن مثل الكولتان والذهب قاعدة لاقتصاد الحرب، وأدت إلى بروز أولغارشية حرب محلية مرتبطة بشبكات دولية.[7]
بالنسبة للسودان، فإن ظاهرة الفساد في أوقات الاستقرار النسبي ظلت مرتبطة عموما بتضارب المصالح داخل الدولة وتعقيدات العلاقات الاجتماعية والوضع الاقتصادي العام وثقافة المجاملات والمحاباة والرشوة السياسية، بيد أن الفساد في الحرب ينتج (أوليغارشية) تتغذى على استمرار الحرب وتستمد قوتها من اقتصاد الظل.
هذه النخب المتمركزة في الذهب والتهريب والتحكم بالموارد(أوليغارشية)، من المحتمل أن تستمر في لعب أدوار محورية حتى بعد انتهاء الحرب، خاصة إذا نجحت في بلورة نفسها داخل المؤسسات الرسمية الجديدة أو الدولية، ما يستدعي تجريدهم سريعا، واعادة بناء الاقتصاد بشكل معافى.
ويمكن القيام بعملية التجريد عبر عدة طرق من بينها اتخاذ سياسات اقتصادية مثل “بناء مؤسسات قوية وشفافة، سيادة القانون وتطبيقه على الجميع، ومكافحة الفساد وتعزيز النزاهة، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطنين والمستثمرين”.[4]
مصادر المقال:
1/ كيف تؤثر الاشتباكات على اقتصاد السودان، مزدلفة محمد عثمان، تقرير، الجزيرة نت، 23 أبريل 2023م.
2/ مؤتمر صحفي لوزير المالية في القاهرة حضره كاتب المقال أعلن فيه عن ترتيبات لاعلان الموازنة العامة وهو ما لم يحدث حتى الآن، 31 ديسمبر 2024.
3/ تقرير تطورات الاقتصاد السوداني2023م، بنك السودان المركزي، صادر في 2024م.
4/ تقريرالتركيز، البنك الإفريقي للتنمية عن حالة الاقتصاد في السودان،2025م.
5/ الذهب والحرب في السودان..كيف يمكن للحلول الاقليمية أن تدعم انهاء الصراع، أحمد سليمان، سليمان بلدو، تشاتام هاوس 26 مارس 2025م.
6/ إرهاب سيراليون، سياستيان جونجو، مجلة فانتي فير، 8 سبتمبر 2006م.
7/ ويكبيديا.
# الصورة تم توليدها من الذكاء الاصطناعي.
ملحوظة: أجريت تعديلا لغويا على المقال، وفي تاريخ المصدر رقم 2.
اقتصاد الحرب وصعود (اوليغارشيا) جديدة
