اقتصاديات الحرب (2/2)

فيما أرى

عادل الباز

1
في الحلقة الأولى من هذا المقال، قلت إننا نادراً ما نتحدث عن اقتصاديات الحرب، مع أن جوهر هذه الحرب اقتصادي بامتياز. فهي حربٌ من يفوز بها سيفوز بالكنز، وهو موارد السودان غير المحدودة. وهل أشعلوا الحرب إلا من أجل نهبها؟!
انتهينا في الحلقة السابقة من فحص الموقف الاقتصادي للمليشيات المتمردة. اليوم، سنرى كيف أُدير الاقتصاد السوداني في خضم حربٍ مفاجئة شلّت وأهدرت أغلب مقدرات الدولة وكل مؤسساتها الاقتصادية، فتوقفت 80% من إيرادات الدولة.

2
اعتمد الاقتصاد خلال العام وسبعة أشهر الماضية، وهي عمر الحرب، على ثلاثة موارد رئيسية لتعويض فاقد الإيرادات الذي خسرته الدولة مع اندلاع الحرب.
المورد الأول هو الذهب. ولحسن الحظ، أن أغلب مناطق مناجم الذهب التابعة للشركات الكبيرة، ومناطق التعدين الأهلي، تقع في الشمال (70%)، وهي مناطق خالية من التمرد. ومع ذلك، وبفعل صدمة الحرب والمخاوف العديدة، توقفت بعض الشركات الكبرى بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة تصاعد أسعار الوقود. أدى كل ذلك إلى تراجع إنتاج الذهب. وتشير البيانات الرسمية إلى انخفاض إنتاج الذهب في عام 2023 إلى 6.4 طن مقارنة بعام 2022، حيث بلغ الإنتاج 41.8 طن.
مواقع التعدين التقليدي والأهلي لإنتاج الذهب تقلّصت من 14 ولاية إلى 6 ولايات، وتراجعت أسواق بيع الذهب من 72 سوقاً إلى 52 سوقاً بعد اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نيسان 2023. كما توقفت الشركات الكبرى ذات الامتيازات، ومعظمها أجنبية.

3
المفاجأة حدثت مع بداية عام 2024، حين قفز إنتاج الذهب منذ بداية العام وحتى أغسطس إلى 29.2 طنًا، بعائد فعلي بلغ 1.86 مليار دولار. وتُشير التوقعات إلى أن الإنتاج قد يصل بنهاية العام إلى 60 طنًا، خاصة بعد عودة 6 شركات أجنبية كبيرة إلى العمل في مربعات امتيازها. كما شهد القطاع دخول رجال أعمال كانوا قد توقفوا عن نشاطهم التجاري، فيما اتجهت العمالة التي فقدت مصادر رزقها نحو مواقع التعدين.
كان قطاع الذهب قد حقق أعلى مردود له في عام 2022، حيث بلغت إيراداته 3.6 مليار دولار.

4
شكلت إيرادات الذهب المذكورة أعلاه أعلى نسبة من إيرادات الدولة، وهي التي ساهمت حتى الآن في تفادي انهيار اقتصادي شامل كان متوقعًا. كما وفّرت تلك الإيرادات مصدرًا مهمًا لتمويل متطلبات الحرب الكبيرة من أسلحة وذخائر ورواتب الجنود.
حدث هذا في ظل غياب الدعم الخارجي أو حلفاء قادرين على تغطية تكاليف الحرب باستمرار، باستثناء ثلاث دول قدمت دعمًا كبيرًا للسودان، ستكشف الأيام عن تفاصيله.

5
كان للمغتربين دوراً بارزاً في دعم صمود الدولة، حيث تكفلوا بمصاريف وتكاليف كانت تقدَّم من الدولة للموظفين. ومع توقف دولاب الدولة، تحمّل المغتربون تكاليف التعليم والمرتبات والصحة ومصروفات الإعاشة، فباتوا يقومون بمهام الدولة تجاه أسرهم الممتدة، سواء في الداخل أو في الخارج كلاجئين.

6
ساهم بعض رجال الأعمال بسخاء كبير في دعم الدولة ووقفوا معها في لحظات حاسمة، عندما كانت بحاجة إلى كل شيء وخزائنها فارغة. دفعوا من مواردهم الخاصة، بل استدان بعضهم من بنوك خارجية لتلبية الاحتياجات العاجلة للدولة. ساهموا كذلك في شراء الأسلحة وتسهيل عقد اتفاقيات مهمة.

7
تحمل المجتمع الأهلي عبئًا كبيرًا في المجهود الحربي، حيث ساهم في تشوين أغلب المتحركات العسكرية التي ارتكزت في بعض الولايات لفترات طويلة. كما قدمت القبائل موجات كبيرة من التبرعات العينية، دعمت بها الجيش في معسكراته المختلفة. امتد عطاء بعض المناطق والقبائل ليشمل شراء الأسلحة، بما في ذلك أسلحة ثقيلة ومتقدمة تكنولوجيًا.

8
رغم أن الدولة استطاعت الصمود وتجاوز صدمة الحرب في أيامها الأولى، بل خلال العام وسبعة أشهر، مع فقدانها 80% من إيراداتها، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي خططها للمستقبل؟ خاصة أن الحرب لا تزال مستمرة ويبدو أنها ستطول، مما يتطلب صرفًا مستمرًا وهائلًا على كافة الأصعدة والجبهات.
ستواصل الدولة الاعتماد على الذهب كمورد رئيسي لتمويل الحرب وأنشطتها المحدودة. كما ستسعى إلى تعظيم الاستفادة من التحالفات التي أنشأتها مؤخرًا، خاصة مع قطر وروسيا وإيران والصين والجزائر. يمكنها الحصول على تمويلات عبر رهن بعض مربعات ومناجم الذهب لتلك الدول، مع انتهاج سياسات جاذبة للشركات العالمية العاملة في مجال التعدين، في ظل تصاعد الاهتمام بالذهب عالميًا.
قد تدخل الدولة أيضًا في شراكات في مجالات أخرى، تحقق عوائد سريعة، مثل المشروعات الزراعية الكبرى (كمشروع زادنا). كذلك، سيستمر الدعم الأهلي والمجتمعي للقوات المسلحة، بالإضافة إلى دعم المغتربين للأسر، مما يخفف من مسؤوليات الدولة تجاه المواطنين.

9
قد يستغرق استعادة الاقتصاد السوداني لعافيته عدة سنوات. ولكن مع استمرار الجيش في دحر التمرد، ستعود الحياة تدريجيًا إلى المناطق المحررة، مما سينعش التجارة المحلية. في المقابل، سترتفع فاتورة السلع المستوردة لفترة طويلة، إلى حين عودة الصناعات المحلية إلى إنتاج السلع الأساسية.
سيكون على الدولة توفير مدخلات الإنتاج للقطاعات المهمة، مثل القطاع الزراعي وقطاع الثروة الحيوانية. وعلى الرغم من أن هذه القطاعات قد لا تحقق عوائد مادية كبيرة، فإنها ستوفر الغذاء، وهو عنصر أساسي لاستقرار المواطنين في الداخل، خاصة مع توقع عودة المزيد من السودانيين من الخارج.
أخيرًا، تحتاج الدولة إلى مرونة في اتخاذ سياسات تستوعب الصدمات وتخفف من تصاعد الدولار في السوق الموازي، مع تعزيز الإنتاج في القطاعات ذات العوائد الكبيرة، لتوفير فرص عمل للعاطلين الذين فقدوا مصادر رزقهم بسبب الحرب.

Exit mobile version