اتفاق الميرغني- قرنق من فصل الجنوب (2)

علي عسكوري

الحقائق التي أفرزتها إنتخابات 1986، لن يتمكن أي حزب من الحكم منفردا, وكان يتوجب على رئيس الوزراء السعي الجاد والحثيث لإيقاف الحرب وتحقيق السلام حتى يكتمل التصويت في ال (41) دائرة في جنوب السودان, كان ذلك سلوكا يقتضي على أي رئيس وزراء منتخب أن يبذل قصارى جهده لتحقيقه، ليس فقط لوقف الحرب، بل لتكتمل شرعية مؤسسات الحكم خاصة البرلمان.
*بالطبع لم يفعل رئيس الوزراء ذلك لأمر واضح يتعلق ببقائه في رئاسة الوزارة لأن اكمال الانتخابات في تلك الدوائر ال (41) يعنى فقدانه للسلطة, فلو تحقق السلام وقامت انتخابات جزئية في ال (41) دائرة من الراجح أن تذهب كلها للحركة الشعبية، فإن الحركة الشعبية وحليفها الاتحادي الديمقراطي سيكون لهم نواب أكثر من حزب الأمة (104) نائبا, وإن أضفنا لهم النواب الآخرين من الأحزاب الصغيرة الأخرى والمستقلين يصبح العدد (149) نائبا, بينما للأمة والجبهة الإسلامية مجتمعين (152) نائبا, تجدر الإشارة هنا إلى أن نائبين من دارفور انتخبوا للبرلمان كمرشحين للجبهة الإسلامية، اختلفا معها وغادراها للحزب الاتحادي واتخذوا مقاعدهم وسط نوابه. هذه الخطوة الخطيرة الحساسة غيرت الحسابات وفتحت الطريق لتغيير في السلطة التنفيذية, وكنتيجة لتحول النائبين تقلص عدد نواب الأمة والجبهة الإسلامية من (152) إلى (150) وزاد عدد نواب الحزب الاتحادي وحليفته المفترضة الحركة الشعبية إلى (151) أي أصبحوا أغلبية ومن حقهم تشكيل الحكومة، و بهذا كان من الممكن (في حال تنفيذ اتفاق الميرغنى- قرنق) وإكمال الانتخابات في ال (41) دائرة أن يصبح قرنق رئيسا للوزراء من واقع غالبية النواب في البرلمان المؤيدن له ولحلفائه.
*هنا تجدر الإشارة إلى فشل قيادات من الصف الأول للجبهة الإسلامية في نيل ثقة الناخبين, فزعيم الجبهة الإسلامية الراحل الترابي ورغم ما أحدثه من تأثير كبير في الحياة السياسية السودانية لم ينال ثقة الناخبين طوال حياته, فقد خسر في المرتين اللتين ترشح فيهما في انتخابات ديمقراطية، والمؤلم أكثر إنه خسر في المرتين أمام مرشح للحزب الاتحادي الديمقراطي, إذن خسر الترابي في انتخابات 1986 ولحقه في الخسارة نائبه الدكتور علي الحاج الذي ترشح في دائرة جغرافية في دارفور، أما إبراهيم السنوسي فقد تجنب الدوائر الجغرافية وأختار دوائر الخريجين كي يصبح نائبا في البرلمان( للمزيد عن تحليل انتخابات 1986 وعلاقتها بانقلاب الجبهة الاسلامية راجع كتابي: حياكة الدجل), هذا موقف يكشف ضعف ثقته في الفوز بثقة الناخبين، إذ من غير المقبول لقائد سياسي أن يترشح في دوائر الخريجين، لكنه مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.
*ملاحظة أخرى تجدر الإشارة لها في تلك الانتخابات وهي أن الدوائر ال (28) التي فازت بها الجبهة الإسلامية منها (13) دائرة في الخرطوم, وهذا يعني ضعف انتشار الجبهة في ولايات السودان بمعنى أنها ورغم ما بذلته من مجهود ووعود بتطبيق الشريعة وما إلى ذلك ظلت حزبا صفويا, يشار أيضا إلى أن الجبهة الإسلامية ورغم فوزها ب (13) دائرة في الخرطوم إلا أن عدد من صوتوا لها (186762) أقل من عدد من صوتوا للحزب الاتحادي (192387)، وكان الحزب الاتحادي قد فاز ب (9) دوائر جغرافية في الخرطوم.
*بالأخذ في الإعتبار كل هذه التفاصيل فإن تحقيق السلام كان يعني بالضرورة خسارة رئيس الوزراء لموقعه.
*أما خيار الذهاب لإنتخابات جديدة في كل السودان في حالة قبول رئيس الوزراء بإتفاق الميرغني- قرنق, فيعنى إلغاء دوائر الخريجين (تخسر الجبهة الإسلامية (23) دائرة مضروبة), ومع ارتفاع شعبية الحزب الاتحادي بصورة كبيرة بعد توقيع الإتفاق كانت كل التوقعات تشير إلى أن الحزب الاتحادي والحركة الشعبية سيكسبانها ربما بفارق جيد من منافسيهم، بالنظر لقدرات قرنق وبالنظر لما حققه السيد محمد عثمان الميرغني من تحقيق السلام كمكسب سياسي غير مسبوق.
*بالطبع كان رئيس الوزراء ملما بكل هذه التفاصيل وهو يجرجر اقدامه لمدة ثمانية أشهر لقبول إتفاق السلام الذي أتى به الميرغني.
*حاصرت إتفاقية السلام رئيس الوزراء حصار السوار للمعصم, وكان المتاح أمامه إما أن يقبل الإتفاق ويخسر موقعه لفترة قد تطول كثيرا، إما أن يواصل الحرب.
*في إحدى تصريحاته قال الراحل الترابي: ( إنه ناقش مع رئيس الوزراء كل الخيارات وكان الانقلاب أفضلها- راجع كتابي)
*وهكذا أضاع رئيس الوزراء ثمانية أشهر ليمكن صهره وحليفه من التجهيز للإنقلاب ومواصلة الحرب للخروج من المأزق الذي وضعهم فيه إتفاق الميرغني – قرنق.
يتبع
هذه الأرض لنا

Exit mobile version